بينما يحيي الشعب الفلسطيني الذكرى السنوية الخامسة والثلاثين لاندلاع انتفاضة الحجارة، أستحضر عبارة "الأرض الملعونة"، التي وصف بها الإعلام الإسرائيلي الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ إلقاء الحجر الأول في مثل هذه الأيام من عام 1987، ما يدفع لطرح السؤال ملحّاً وضرورياً: كيف تعامل الاحتلال مع هذه "اللعنة" التي حلت به منذ "الحجر" الأول؟ وكيف واجهها؟ وكيف تعاطى معها على المستويين السياسي والعسكري، وإن اكتملا لهدف واحد هو خنق الانتفاضة؟
لقد عكست شهادات قادة الاحتلال نقطتين أساسيتين في التعامل مع الانتفاضة، أولاهما المباغتة والمفاجأة التي أحدثتها، وانعكست في البداية بالإعلان أن ما يجري سيعالج خلال شهر وشهرين، وفي النهاية انعكست اعترافا بالعجز عن إخمادها، وثانيتهما الإقرار الإسرائيلي الذي اتسع وتنامى باتجاه أن التسوية السياسية كفيلة بإنهاء "الاضطرابات"، والتقاء أحزابها على قاسم مشترك لإنهاء الانتفاضة بأقل قدر من التنازلات.
وهكذا تداخلت العوامل السياسية والعسكرية والأمنية لمواجهة الانتفاضة، والحد من تأثيراتها السلبية في الاحتلال، مجتمعا وجيشا وحكومة، ما جعل جميع الجهات الداخلية تتفاعل معها، وتقدم مقترحاتها وخططها، ومنها الوزارات المعنية مباشرة كالحرب والخارجية، ومؤسسة الجيش، والإدارة المدنية، والمخابرات.
أخذ السلوك العسكري الإسرائيلي تجاه انتفاضة الحجارة جملة من الإجراءات لعل أهمها اتخاذ قوات الاحتلال التدابير القمعية للحد من امتدادها، بإعادة انتشارها في الأراضي المحتلة، وتمركزها على المحاور الرئيسة، وتشكيل ميليشيا المستوطنين، وإعطاء تعليمات للجنود بإطلاق الذخيرة الحية على المتظاهرين، وتصديق رئيس هيئة الأركان على صيغة جديدة لأوامر الاعتقال الإداري ضد الفلسطينيين، والنظر باستدعاء قوات الاحتياط.
في حين أعلن رابين خططه العسكرية لقمع الانتفاضة، وتضمنت تأمين حضور عسكري يصل لخمسة أضعاف القوة العسكرية المنتشرة فعلياً، ونشر مجموعات من الجنود عند النقاط الحساسة، وتكثيف جهود أجهزة المخابرات لمنع قيام مظاهرات، والاستخدام الواسع للجهود والوسائل الفعالة.
لقد جاء رد الفعل الإسرائيلي على الانتفاضة في حالة تصاعد، بالقتل والضرب، وتكسير العظام، واستعمال الرصاص المطاطي والحي، والاعتقالات الجماعية: الاستثنائية والوقائية، وفتح سجون جديدة، وإغلاق المدارس والجامعات والكليات، واحتلال المدارس المغلقة، وتحويل بعضها لمعسكرات جيش ومراكز اعتقال، وتعميم العقوبات الجماعية كالقيود المالية، وهدم البيوت، والاعتداء على الصحافة، وإخراج اللجان الشعبية عن القانون، وإقفال الجمعيات الخيرية، والقيود الاقتصادية بمنع تصدير بعض المحاصيل، وفرض منع التجوال على القرى والمخيمات.
ومع كل ما تقدم من قمع وقمع متواصل، فلم تتضمن السياسة الإسرائيلية بعدا جديدا، بل تمسكت بالمعادلة المعروفة أن "المزيد من القمع يؤدي لرضوخ الشعب، واستكانته"، وفي هذه الحالة تجهض الانتفاضة وتنتهي، لكن أحداثها اليومية أثبتت أنه حين أراد الاحتلال وقفها بالقبضة الحديدية، فقد "ازداد انزراعه في وحل المستنقع"، وجاءت الأحداث مخيبة لآماله، بعد أن شكل وجوده مسوغا دائما ويوميا لاستمرار الانتفاضة.