لقد كان لمعركة سيف القدس، تلك الحرب التي شنتها قوات الاحتلال على غزة العام الماضي، وقعٌ كبير على الانفجار فى الضفة الغربية المحتلة، فمنذ ذلك الحين أخذت المواجهات الشعبية والعمليات الفدائية المسلحة منحنى تصاعديًّا لم يتوقف، فلا يكاد يمر يوم دون اشتباك بين الناشطين الفلسطينيين وجنود الاحتلال أو المستوطنين في الضفة الغربية، وأصبحت عملية "كسر الأمواج" التي يفتخر بها الاحتلال لمواجهة المقاومين، غير مجدية، وأن كل دقيقة تكلف الاحتلال خسائر عسكرية في صفوف قواته، إذا زادت على حدها، تعرضهم لخطر المقاومة، فهو يحسب ألف حساب عند كل عملية اجتياح للمناطق الفلسطينية، خاصة عند خروجه منها، من شدة المقاومة، وإن نجح الاحتلال في عمليات الاعتقال أو الاغتيال للمقاومين، إلا أن هذا يفت في عضدهم، وكما يقولون، الحبل على الجرار، فما صعب من مهمة الاحتلال هو أن العديد من الشباب المنضمين حديثًا للمقاومة غير مدرجين على قوائم المتابعة والمراقبة الأمنية، وهذا يعنى أنهم خارج الرادار الأمني الإسرائيلي وخارج الرادار الأمني للسلطة الفلسطينية.
الواضح أن المقاومة في الضفة انطلقت بنفَس طويل، ولأجل غير معلوم، فلم تتأثر من ضربات الاحتلال، وربما تكون مقدمة لثورة عارمة تجر الاحتلال إلى جرف الهاوية، فبينما تشهد عمليات المقاومة المسلحة في الضفة الغربية المحتلة تطورًا نوعيًّا في الآونة الأخيرة، فمنذ مطلع شهر سبتمبر/أيلول الماضي وصلت إلى ذروتها بـ833 عملًا مقاومًا، تنوعت بين اشتباكات وإطلاق نار، فهي تحتل المرتبة الأولى على القائمة، وإلقاء الحجارة والطعن أو محاولة الطعن والدعس بالسيارات وزرع أو إلقاء العبوات الناسفة، وأدت لمقتل ضابط إسرائيلي ومجندة وإصابة عدد آخر من جنود الاحتلال بعضهم بجراح خطرة، حسب مركز المعلومات الفلسطيني "معطى".
لا شك أن الوضع في الضفة يتجه إلى انتفاضة مسلحة، وأن الاحتلال يعيش حالة من القلق والارتباك نتيجة تصاعد عمليات المقاومة ردًّا على جرائمه. على الرغم من استبعاد مراقبين هذا السيناريو أن يتحول سخط الشارع والاحتجاجات الشعبية، وعمليات المقاومة الحالية إلى انتفاضة مسلحة، وذلك بسبب تفكيك غالبية البنية العسكرية لحركات المقاومة على مدار السنوات الماضية من جهة، وبسبب العقيدة الأمنية “الدايتونية” التي تنتهجها الأجهزة الأمنية الفلسطينية منذ سنوات طويلة ضد كل أشكال المقاومة من جهة أخرى، التي غابت عنها المظاهر المسلحة منذ أن أصدر عباس مرسومًا في 26 يونيو/حزيران 2007 بحظر كل المليشيات المسلحة والتشكيلات العسكرية.
لعل أول من نبذ سياسة السلطة تجاه المقاومة هم أبناؤها الذين بدأ بعضهم ينخرط في أعمال المقاومة، وقد استشهد بعضهم، ما يدلل على نهج حركة فتح المقاوم، أما أرباب التنسيق الأمني الذين يلاحقون المقاومين فلا يمثلون فتح، فعلى مدار سنوات شنت أجهزة الأمن التابعة للسلطة حملة اعتقالات واسعة طالت مئات المقاومين الفلسطينيين التابعين لحركتي المقاومة الإسلامية (حماس) والجهاد الإسلامي، ولم يسلم منهم أفراد الأجهزة الأمنية وحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) من الشرفاء والوطنيين.
هذا زاد من غيظ أجهزة أمن السلطة ومعهم قادة الاحتلال، بأن أبرز ما يميز موجة المقاومة الحالية في الضفة هو اندماج مقاتلي حركتي حماس والجهاد الإسلامي مع مقاتلين من كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح في مجموعات مسلحة موحدة، ومن أبرز تلك المجموعات "كتيبة جنين" في مخيم جنين ومجموعة "عرين الأسود" وكتيبة "مخيم بلاطة" في نابلس.
إن جزءًا كبيرًا من الأجيال الفلسطينية الشابة غير مؤدلجة بأيديولوجيات تقليدية، وإنما تقوم بفعل مقاوم من منطلقات وطنية وكرد فعل على جرائم الاحتلال، وهذه الأجيال لم تخضع لعمليات كي الوعي المستمرة وكذلك لم تخضع لعمليات ملاحقة أمنية، ما يسهل قدرتها على الحركة.
لقد تغيرت مفاهيم الاحتلال السياسية والعسكرية بعد درس التصعيد في الضفة، فيناشد كل الجهات لإنقاذه من هذه الورطة، فبحسب التقارير العسكرية الصهيونية، فإن (إسرائيل) دفعت إلى الضفة الغربية منذ بداية الموجة الحالية 24 كتيبة من جنودها، وهو ما يعادل نصف الجيش الإسرائيلي. ويقول المحلل العسكري لصحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، رون بن يشاي: الضفة تشغل الأمن الإسرائيلي أكثر من الاتفاق النووي الإيراني وتهديدات "حزب الله". فعند القيام بعملية عسكرية ضد مقاوم يدفع الاحتلال برتل من قواته لا تقل عن خمسين مدرعة وناقلة جند معززين براجمات ودبابات وجرافات وطائرات حربية واستطلاع، فكيف بهذا الجيش المدرب على مناورات عسكرية واحدة تلو الأخرى ويمتلك أحدث الأسلحة والإمكانات المتطورة عسكريًّا وتكنولوجيا، أن يخوض حربًا مع دولة؟ لأنه يعرف حجم نفسه من خلال الفشل الذي مني به من المقاومة الفلسطينية، وهذا ما دفع بلبيد إلى القول: “أغلب قواتنا تعمل في الضفة ولا نحتاج إلى سور واقٍ 2، خوفًا من الانزلاق في متاهات الضفة والانزلاق إلى الهاوية.