في بلد عائم فوق الانقلابات مثل السودان، لم يكن انهيار الشراكة الهشة بين المدنيين والعسكريين مفاجئاً على أي حال، في الحقيقة كان الجيش مُحرِّكاً رئيسياً في التحوُّلات السياسية كافة التي شهدها السودان، فمنذ الانفصال عن مصر عام 1956، وحتى عزل البشير عام 2019، حكم العسكر عبر ثلاثة انقلابات ناجحة (النميري ثم عبود ثم البشير) نحو 55 عاماً، مقابل سبع سنوات فقط من الحُكم المدني، وقد دفعت ثنائية "العسكر والسلطة" التاريخية تلك، الجيش السوداني إلى التأكيد دوما أنه وصي على البلاد، وكان هذا حافزاً كبيراً لإعادة سيطرة الجيش على مكونات الحكم في السودان.
الحرك الثوري
استمرت المظاهرات السلمية التي انطلقت منذ 25 أكتوبر عام 2021م رفضاً لسيطرة الجيش على الحكم، وظلت متواصلة إلى الآن، ولها أهداف محددة وهي رافض تدخل الجيش في العملية السياسية وإنهاء الحكم العسكري والوصول إلى دولة مدنية كاملة، وهو ما تقابله السلطة الحاكمة بالقوة العسكرية.
وبعد قرابة العام على سيطرة الجيش على مكونات الحكم في السودان، لم تحقق قوى تحالف الحرية والتغيير أي إنجاز على أرض الواقع، وفقدت المظاهرات "الحراك الثوري" الآن أهميتها وفعاليتها وتأثيرها في الشارع السوداني، وخير دليل على ذلك فشل مظاهرات يوم أمس 21 أكتوبر الذي دعت له أحزاب المعارضة.
بل ازدادت هوة الخلافات بين مكونات المعارضة، ووقف تحالف الحرية والتغيير في صف والحزب الشيوعي السوداني وتجمع المهنيين السودانيين ولجان المقاومة في صف آخر، لا يجمع بينهما سوى رغبة الطرفين في إسقاط الانقلاب، وتوسعت الهوة أكثر في الشهر الأخير بعد أن أقدمت الحرية والتغيير على التفاوض مع العسكر تحت الرعاية السعودية الأميركية.
التحالفات السياسية
معظم التحالفات السياسية بين الأحزاب والقوى السودانية التي لا تلبث أن تتغير بتغير مجريات الأحداث، لأنها تحالفات وقتية تبنى على صيغة "الحد الأدنى" من التوافق، وهو ما يُصعب من استمرارها، لذا سرعان ما تنفضّ، لأنها لا تستند على مبادئ فكرية صلبة وإنما تنبني على مواقف براغماتية وقتية، لذلك لا تصلح كصيغة للعمل السياسي في بلد لم تنهض فيه العملية السياسية على مبادئ دستورية متفق عليها.
مما انعكس ذلك على تصدع وتشظي في قوى الثورة وانحسار للمظاهرات في الشارع، مما مهد لقوى الثورة على الهبوط والرضوخ الناعم في الجلوس للحوار وقبول شروط المكون العسكري.
وبالتالي فأي آمال على الدعوة لحراك ثوري في 25 أكتوبر، يتوقع له "الفشل " وذلك للأسباب التالية:
أن التحالف حدد منذ وقت مبكر عقب سيطرة الجيش على الحكم 3 أدوات لإسقاطه، في مقدمتها الحراك الجماهيري والضغط الدولي والإقليمي، والحل السياسي عبر عملية سياسية مشتركة متوافق عليها بين مكونات المجتمع السوداني.
- استطاع العسكر تفكيك تلك الأدوات الثلاثة وفي مقدمتها إنشاء قاعدة جماهيرية يرتكز عليها في مواجهة التحالف.
- عمل على إفشال وتشظي أي تجمع أو تحالف مناوئ له داخل المجتمع السوداني، من خلال وجود أحزاب تتقاطع مصالحها مع العسكر، وذلك لشرط المكون العسكري وجود توافقاً وطنياً لتسليم السلطة للمدنيين.
- إيجاد بيئة دولية وإقليمية تعترف به، فزار البرهان الأمم المتحدة ومصر وأثيوبيا وحضر قمم أفريقية.
- انشغال القوى الدولية والإقليمية بالأحداث والمتغيرات العالمية "السياسية والاقتصادية" عن الاهتمام بقضايا السودان، مما يتيح للعسكريين فرصة كبيرة للبقاء في الحكم.
- النظام الحاكم في جمهورية مصر العربية المجاور للسودان، لن يسمح بنجاح تجربة حكم مدنية على حدوده، خوفاً من انتقال العدوى له.