مضى على احتلال القدس ما يزيد على (55) عامًا، بعد أن اتخذت الحكومة الصهيونية قرار توسع دولة الكيان لتصل إلى القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، فشلت خلالها السياسات الدولية في حماية الفلسطينيين بعد تعرضهم لمجازر إرهابية على يد العصابات الصهيونية التي حاصرت القدس واحتلت المسجد الأقصى، وكان أول دافع للاحتلال هو السيطرة على القدس وفق مزاعم يهودية لبناء الهيكل، فشل الاحتلال في استثمار أولى مراحله في فلسطين لإعلان يهودية الدولة بعد عام 1967، في ظل تشكُّل خلايا المقاومة، واندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987 التي أسست لمحطة جديدة في الصراع مع الاحتلال، استطاعت خلالها المقاومة أن تقف ندًّا لممارسات القتل التي انتهجها جيش الاحتلال، وهي أول سيناريو من سيناريوهات المقاومة التي شاركت بها معظم الفصائل الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة حماس، الأمر الذي جعل العدو يعيد صياغة استعمارية جديدة لمواجهة المتغيرات الميدانية التي أحدثتها انتفاضة الحجارة، وما نجم عنها من التفاف شعبي حول قرارات المقاومة وسبل مواجهة الاحتلال، إذ اتخذت الحكومة الإسرائيلية بعض السيناريوهات لتحقيق دوافعها في القدس، والتي تتمثل في الآتي:
أولاً: البعد العقدي والمزاعم اليهودية، إذ تبنت جماعات صهيونية متطرفة تأسيس وتشكيل منظمات تدعو لغرس مفاهيم جديدة في أوساط المجتمع الإسرائيلي، تقوم على نشر الثقافة والادعاءات الفكرية اليهودية حول القدس، وإقامة التجمعات والصلوات التلمودية أمام حائط البراق، ثم مواصلة اقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى، وتكريس هذا النهج منذ اندلاع انتفاضة الأقصى، حين اقتحم "شارون" باحات المسجد، كمحاولة لفرض واقع صهيوني جديد، شكَّل دافعًا رئيسًا للمستوطنين والجماعات الصهيونية المتطرفة من تكرار الاقتحامات، وهو المعمول به حاليًّا، إذ زادت أعداد المستوطنين المقتحمين للأقصى خلال العام الحالي، إذ سجل عام 2022 حتى أكتوبر ما يقرب من (52) ألف مستوطن اقتحموا الأقصى، في حين سجل عام 2019 اقتحام ما يقرب من (25) ألف مستوطن، وهو ما يشير إلى أن خطة الإدارة الأمريكية "صفقة القرن" تُترجم فعليًا على الأرض، في ظل صمت دولي وعربي، وفي ظل مواصلة الإدارة الأمريكية الجديدة دعم الاحتلال نحو تهويد القدس.
ثانيًا: تعزيز الانقسام بين الفلسطينيين، وهو دافع صهيوني لتمزيق بنية المجتمع الفلسطيني، وإجهاض كل مساعي التقارب بين مكونات العمل السياسي والوطني، إذ أفشل الاحتلال المساعي الرامية لبناء نظام سياسي فلسطيني ديمقراطي، بعد أن رفض مشاركة القدس في الانتخابات الفلسطينية المقرر عقدها خلال السنوات الماضية، كان آخرها العام الماضي قبيل معركة سيف القدس في مايو 2021، الأمر الذي عطل مشروع الانتخابات، وما نجم عن ذلك من محاولات الاحتلال نحو عزل القدس عن القضية الفلسطينية.
ثالثًا: الدافع الصهيوني الأبرز الذي يستهدف العرق الفلسطيني، من خلال ضرب بنية الديموغرافيا في القدس، واستهداف الأحياء المقدسية، وفرض سياسات عنصرية تنتهك حقوق السكان المقدسيين، إذ تمارس الحكومة الصهيونية التهجير القسري، وهدم أحياء بأكملها، وتزييف للحقائق من خلال تغيير أسماء الأحياء والطرقات إلى أسماء يهودية ليس لها أي ارتباط بتاريخ القدس، الأمر الذي أدى إلى ضعف وجود أي مكون أو تجمع فلسطيني منظم يناهض سياسات الاحتلال العنصرية.
رابعًا: نشاط الدبلوماسية الصهيونية عالميًّا، واختراق المجتمع الدولي، وجلب الكثير من الدول لنقل سفاراتها للقدس، وتسويق فكرة "يهودية القدس" وأنها مرجع ديني لكل الأديان، إذ هناك حالة دولية تشكلت داعمة للفكر الصهيوني في الشرق الأوسط، على قاعدة التطبيع وعقد اتفاقات سلام في المنطقة، الهدف منها توسع الاستعمار، وضرب المعالم التاريخية للمقدسات الإسلامية.
يعمل الاحتلال على تحقيق تلك الدوافع منذ عقود من الزمن، وقد تعثر كثيرًا في بعض المحطات، لكن السياسة لا تعرف خطوط النهاية، إذ إن كل نهاية تُعد نقطة بداية في قواميسها ونواميسها، فكانت البداية هي نقطة انطلاق المقاومة من القدس وغزة والضفة والداخل المحتل، بعد أن شكلت المقاومة حزامًا ناريًّا، يضرب العدو في العمق، ويبدد منظوماته الأمنية والسياسية والعسكرية، ويفجر المنطقة بأكملها، وتعلن المقاومة سيناريو وحدة الأرض والهوية والهدف، ووحدة السلاح، وتحقيق أول عامل من عوامل التأثير التي أصابت الاحتلال وأحدثت انقلابًا تاريخيًا بين أحزابه المتناحرة التي لا تزال ترزح تحت تهديد المقاومة التي فرضت قواعد الردع وتغيير المعادلات.