نجح الحوار الفلسطيني المنعقد في الجزائر، وتم التوقيع على وثيقة وطنية ربما هي الأقرب لحفظ ماء الوجه، وعدم تعثر العلاقة بين الجزائر وفلسطين، فما حدث ربما هو حالة نادرة في جولات المصالحة وإنهاء الانقسام، إذ إن الحوار لم يستغرق سوى عدة ساعات، توافقت خلالها كل الأطراف على جميع البنود المتعلقة بالورقة التي تقدمت بها الجزائر، وما جرى عليها من تعديلات لم يمثل عمقًا جوهريًا، باعتبار أن ما جاء بها يؤسس لمرحلة مهمة من مراحل بناء وحدة وطنية فلسطينية، واستعادة ترتيب البيت الفلسطيني، أيضًا بناء نظام سياسي فلسطيني تشارك فيه كل الفصائل والقوى السياسية، على قاعدة المشاركة وحفظ حقوق أبناء شعبنا.
في حين أن ما أُعلن من تعثر أصاب الحوار في ساعاته الأخيرة، وبعض التسريبات التي أكدت بالفعل تدخلاً، لتعطيل التوقيع على مسودة الاتفاق بعد حالة التوافق التي اتسمت بها جولة الحوار، والإيجابيات المهمة التي ظهرت في الجزائر، فهذا يدفعنا لاستنتاج أن بعضًا من الأطراف الخارجية غير الفلسطينية ترفض إجراء أي مصالحة فلسطينية، وهو ما أكدته تداعيات الحوارات السابقة التي استغرقت (15) عامًا، التي اصطدمت بنفس الجدار الذي يمنع من الوصول إلى أي رؤية فلسطينية على طريق بناء الوحدة في الوقت الحالي، وفي ظل ما تتعرض له الضفة من حصار واعتداءات صهيونية متكررة، وإعدامات طالت العشرات من أبناء شعبنا.
ولكي نسلط الضوء من منظور آخر على أهم المعوقات التي تمثل خطرًا على المشروع الفلسطيني، ولها ارتباطات رئيسة بجولات الحوار، وتمنع من نجاحها، يمكن إيجازها في الآتي:
أولاً: رفض الاحتلال لإجراء أي تسوية وطنية داخلية بين الفصائل وعلى رأسها حركتا حماس وفتح، إذ يعمل الاحتلال ومنذ أكثر من (70) عامًا، على تفتيت بنية وترابط المجتمع الفلسطيني، وممارسة وسائل وسيناريوهات تعزز من حالة التفتت والتشتت، على قاعدة "فرِّق تسُد"، وهو من منظور صهيوني يرى أنه من الأهمية بمكان مواصلته لهذا النهج الذي يَعتقد أنه يحقق له التفرد بكل مكوّن من مكونات شعبنا على حدة، إذ يرفض الاحتلال ومنذ سنوات عدة إجراء أي انتخابات فلسطينية في القدس، باعتبار أن القدس تمثل البعد الوطني والعقدي والقومي للفلسطينيين، وأن الفلسطينيين يرفضون رؤية الاحتلال ونهجه حول منعه من مشاركة المقدسيين بالانتخابات الفلسطينية، كذلك يعزز الاحتلال تمزيق المنطقة جغرافيًّا، بدءًا من قطاع غزة وصولاً إلى جنوب الضفة الغربية، بحيث يسعى من خلال الفصل الجغرافي بين المحافظات الفلسطينية إلى ضرب منظومة الحياة الآمنة للشعب الفلسطيني، ومواصلة عمليات التهديد الأمني التي تطال أبناء شعبنا عبر الحواجز العسكرية، وما يتعرضون له من ابتزاز وانتهاكات تصل إلى حد الاختطاف والتنكيل.
كما أن الحكومة الإسرائيلية ترفض أن تكون حركات المقاومة الفلسطينية كحماس والجهاد الإسلامي جزءًا من منظمة التحرير، إذ يرى قادة الاحتلال أن ذلك يعد إنجازًا سياسيًا قد تصل له المقاومة، ومدخلاً مهما لها لتعطيل مشاريع التسوية التي وقعتها الحكومة الإسرائيلية مع المنظمة بما فيها اتفاق أوسلو والاتفاقات الأمنية التي تضر بمصالح الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، إذ إن ذلك يعد تهديدًا إستراتيجيًّا للاحتلال، وعليه يرفض هذه الخطوة ويضع أمامها الكثير من المعوقات.
ثانيًا: ما زال المجتمع الدولي يراهن على استمرار الانقسام، ومواصلة تعطيل كل المشاريع الوطنية التي تخدم بناء الدولة الفلسطينية، وعليه ومنذ الإعلان الأمريكي عن صفقة القرن "خطة ترامب" لم يقف المجتمع الدولي أمام مسؤولياته تجاه القضية الفلسطينية، ولم يلتزم بعد بالضغط على الاحتلال لتنفيذ القرارات التي تجبر الاحتلال بالانسحاب من المناطق التي احتلها عام 1967، بل على العكس تمامًا، ما زال هناك من يدعم الحكومة الإسرائيلية ويقدم لها السلاح والمال ويشارك في إعداد خططها الاستعمارية في فلسطين، ويمنحها الغطاء الدولي لقتل وإبادة الأطفال والنساء، وارتكابها المجازر المتتالية دون تحرك دولي يحاسب قادة الاحتلال على هذه الجرائم، وعليه فإن هذا المعوق مرهون بالأساس على مدى حالة الضغط التي يمكن للفلسطينيين ممارستها وفضح الانتهاكات الدولية التي تضر بمفاصل القضية الفلسطينية.
إذ لا يمكن أن نحدد عوامل نجاح الوصول إلى مصالحة حقيقية في هذه المرحلة التي تتراجع فيها مكانة القضية الفلسطينية دوليًا، ولا سيما في ظل التحالفات الدولية التي تتشكل نتيجة الأزمة الروسية-الأوكرانية، وفي ظل الحالة التي باتت تحتل جزءًا واسعًا بين فصائلنا الفلسطينية والقائمة على القناعة التامة بفشل تحقيق وبناء الوحدة، إذ إن هذه القناعة تعد الأخطر على المستوى الوطني، علمًا أنها قناعة تكرست وتعززت كنتيجة حتمية لحالة الفشل المستمرة التي أصابت المحاولات الداعمة لإنهاء الانقسام.