تقف عائشة على نافذة غرفتها المطلة على حائط البراق، تستذكر طفولتها التي عاشتها في بيت فسيح تحيط به أشجار التين والزيتون في حي المغاربة، قبل أن يرتكب الاحتلال جريمته بتدمير الحي وهدم بيوته ومحو معالمه عام 1967، ويُنشئ على أنقاضه ساحة يؤدي فيها المستوطنون صلواتهم وطقوسهم التلمودية سميت "ساحة المبكى".
تسكن عائشة المصلوحي (76 عامًا، من أصول مغربية) في غرفة صغيرة بزاوية المغاربة، مع 10 عائلات أخرى تعيش في آخر ما تبقى من معالم الحارة المدمرة، تواجه بعزيمة ممارسات الاحتلال الرامية إلى تهجيرهم من القدس العتيقة.
جذور المغاربة
تقع حارة المغاربة جنوب شرق البلدة القديمة لمدينة القدس المحتلة، بجوار حائط البراق، وعلى بعد بضعة أمتار من المسجد الأقصى، وتبلغ مساحتها 45 ألف متر مربع، وتشكل 5% من مساحة البلدة القديمة.
وإلى العصر الأموي يرجع تاريخ الحارة حين أنشأ الأمويون عددًا من القصور الملاصقة لسور المسجد الأقصى من الناحيتين الجنوبية والجنوبية الغربية؛ أما تأسيسها فيعود إلى العصر الأيوبي، كما يبين المرشد السياحي بشار أبو شمسية.
ويوضح أنه بعد تحرير القدس أسكن الناصر صلاح الدين الأيوبي جنوده المغاربة في الحارة بهدف حمايتها، لأنها كانت الجزء الأضعف بالمدينة في تلك الحقبة.
فيما بعد أُوقفت المساكن المحيطة بحائط البراق على مصالح الجالية المغربية المجاورة في القدس؛ لتسهيل إقامتهم في المدينة، ومنذ ذلك التاريخ بات المكان يُعرف باسم "حارة المغاربة".
ويعدد أبو شمسية أسماء بعض العائلات التي سكنت الحارة في حقب متلاحقة كالمغربي، والتونسي، والمصالحة، والعلمي، "وكان لها نشاط ملحوظ في خدمة المسجد الأقصى، فمنهم العلماء وسدنة المسجد وحراسه".
ويضيف: "ارتبطت تلك العائلات بالمسجد الأقصى ارتباطًا روحيًّا كاملًا، لأنهم من اللحظة التي جاؤوا فيها إلى المكان جاؤوا مقاتلين ومدافعين عن المدينة المقدسة، وبعد أن استقروا في الحارة صاروا خط الدفاع الأول عن المسجد الأقصى".
نظام معماري قُدسي
عن مكونات حارة المغاربة يفيد أستاذ التاريخ والآثار نظمي الجعبة أنها حوت 205 مبانٍ، قبل تهويدها، وكانت مساحتها 40 دونمًا، ذات شكل مستطيل يمتد من الشمال إلى الجنوب، وهي من أكثر الحارات انخفاضًا، وأغلب دورها من طبقة واحدة.
ويذكر في كتابه "حارة اليهود وحارة المغاربة: صورة حية لما قبل سنة ١٩٦٧" أنّ دور المغاربة تشكلت من ساحة سماوية مكشوفة محاطة بغرف (2-5 غرف) وفراغات، في كل منها بئر ماء، واحتوت على مطبخ ومرحاض ومخازن وإسطبلات، وبعضها احتوى على أحواض زراعة وأشجار، وعلت أغلبية المباني القباب الضحلة المبلطة بالبلاط الحجري، أعلاها قبة المدرسة الأفضلية إحدى أشهر المدارس الشرعية.
ويُبيّن الجعبة أنّ مباني المغاربة امتدت باتجاه حائط البراق وتركت الجدار مكشوفًا دون أن تستند إليه، "وذلك دليل على قدسيته لدى المسلمين قبل أن يصبح مطمعًا لليهود في القرن السادس عشر"، ويدعم هذا الاعتقاد بناء جامع البراق في العهد المملوكي، أمّا الطرق والممرات فبُلّطت بالبلاط الحجري السلطاني، لكنها خلت من السقوف والقناطر.
مجزرة أثرية
هدم الحارة ارتبط بالسيطرة على الجزء الشرقي من مدينة القدس المحتلة في 10 حزيران (يونيو) 1967، وفقًا لحديث الجعبة، إذ ارتكب الاحتلال في ساعات مجزرة أثرية ومعمارية وإنسانية في المكان، بهدم 138 بناية، منها: جامع البراق، وجامع المغاربة، والمدرسة الأفضلية، والزاوية الفخرية، ومقام الشيخ أبو مدين.
وفي إثر الجريمة التي ارتكبتها قوات الاحتلال هُجّر سكان الحارة ونزحوا منها، "فمنهم من سكنوا في القرى المجاورة لمدينة القدس، ومنهم من بقي داخل أسوار البلدة القديمة، فسكنوا في حارات أخرى كحارة النصارى وحارة الشرف ومنطقة باب حطة، وغيرها".
لا يزال يسكن إلى الآن عدد قليل من المقدسيين في أطراف الحارة، ومنهم عائشة، متشبثين بأرضهم، يواجهون بصمود منقطع النظير تصاعد الهيمنة التهويدية على هويتهم وكينونتهم التاريخية، في حين يجري الاحتلال حفريات أسفل حارة المغاربة، بعد أن حولها إلى ساحة كبيرة، لتوسيع ساحة البراق أمام المقتحمين المستوطنين الذين يزعمون أنها جزء من الهيكل الثاني.