على مدار عقد ونصف انقضت، دشنت غزة على أرضها بيئة صالحة للاستزراع الثوري اللازم لتزويد مشروع المقاومة بالعقول والسواعد المطلوبة لصناعة ذراعنا العسكري الرادع للاحتلال، كما نجحت في تدشين بيئة شعبية ورسمية حاضنة لمشروع المقاومة، بيئة صلبة أظهرت خلال العقد والنصف قدرتها على تحمل كلفة احتضانها لمشروع المقاومة، وبفضل هذه البيئة باتت مقاومة غزة تُشكل نموذجًا فريدًا في تاريخ النضال الفلسطيني، على صعيد قدرتها على الردع وعلى صعيد سعيها الدائم لتطوير تلك القدرة ورفع قوة تأثيرها.
غزة وبعد نجاحها في الوصول إلى قوة ردع قادرة على انتزاع مكتسبات سعت جاهدة إلى وضع قوتها في دعم وإسناد باقي الساحات التي لن نستعيد فلسطين إلا بمجموع ما تراكمه من قوة وبمجموع فعلها الثوري الضاغط على الاحتلال، ولإنجاح مشروع توحيد الساحات أدخلت غزة كل إمكاناتها في خدمة هذا المشروع، وفي سبيل جعله واقعًا قائمًا لم تتردد في دخول ما لا طاقة لها به على الصعيد الإنساني.
الترجمة الفعلية لوحدة الساحات عبرت عنه غزة عندما رفعت في وجه الاحتلال ما راكمته استطاعتها من قوة، حين اعتدى على المسجد الأقصى، وحين اعتدى على جنين، وحين اعتدى على النقب، ولا شك أن لكل خطوة هدف، وهدف غزة الأول هنا، مسارعة تلك الساحات الخطى نحو خدمة بعضها بعضًا ودفع شر الاحتلال عنها، فغزة تريد أن ترى حيفا ثائرة إن صرخت جنين، وتريد أن ترى نابلس مشتعلة إن صرخت اللد، وهذا الهدف لا ينفك عنه رغبة غزة في أن ترى تلك الساحات ثائرة مشتعلة في وجه العدو مع كل عدوان يستهدفها، فلهذا قيمته الإستراتيجية التي تجلت شواهدها خلال معركة سيف القدس، فتزامن اشتعال الساحات أصابت قوة العدو بالتناثر والضعف، ما اضطر لابتلاع خسارته والمسارعة إلى إنهاء العدوان.
صحيح أن قدرات المقاومة في تصاعد لكنها لم تمتلك بعد قوة ضغط تضمن لنا فرض ما نريد من شروط على الاحتلال، خصوصًا أن الظروف الإقليمية تستقطع من قوتنا لصالحه، ظروف إقليمية جعلت الشعور بالعلو ينتعش في دواخل الاحتلال، وهذا العلو يُغذيه تهافت أنظمة عربية وازنة على التطبيع معه، وبات واضحًا أن دعمهم وإسنادهم لنا في تآكل، يُجيد الاحتلال اقتناص فرص استثماره لصالحه، فالذي يُفترض أن يتحمل مسؤولية أن يكون ظهيرًا رسميًا لنا، تحول اليوم إلى خصم يرفد عدونا باحتياجاته الأمنية المستهدفة لشعبنا ومقاومته، بل نراه لا يتردد في تقديم الخدمات السياسية الخادمة للاحتلال في قنوات التفلت من خطر أي حراك دبلوماسي أو حقوقي قد يمنحنا فرصة محاسبته على كل عدوان يشنه على شعبنا.
احتشاد الظروف الإقليمية المتعاكسة مع مصالحنا الوطنية، تجعل وحدة الساحات من أهم الضرورات الوطنية الخادمة لمشروعنا الوطني، فبوحدتها تقوى شوكتنا في وجه العدو، مع ضرورة حماية مخزون صمودنا وصبرنا من النفاد، فمعركتنا مع الاحتلال تحتاج إلى نفس طويل، فنحن لا نمتلك ترسانة عسكرية تجعلنا نخوض مع الاحتلال معركة صفرية تنتهي بهزيمته بالضربة القاضية.
يجب أن نتفق أننا جميعًا في الساحات الأربع نعيش احتلالًا نريد دحره وطرده عن أرضنا، ولنتفق أيضًا على أننا نرزح تحت احتلال ذات فطرة وسجية تجعله لا يقبل أن يتركنا وشأننا حتى ولو تركناه، والشواهد ماثلة أمام شعبنا في كل الساحات.
ويجب أن نتفق أن السكوت والصمت لا يستعيد أرضًا ولا يحرر أوطانًا، وأن استعادة الأرض لم ولن يكون دون أثمانٍ ندفعها، فتاريخ من سبقونا بالعيش تحت الاحتلال من الشعوب يخبرنا بذلك.
ويجب أن نتفق أن الاحتلال عدو يحرم علينا جميعًا معاونته أمنيًّا، وكل من يتورط في التعاون معه، يتساوى معه في الوصف والمصير.
كما يجب أن نتفق أن الفعل الثوري المقاوم للاحتلال خيار إستراتيجي نوظف لأجله طاقاتنا وإمكاناتنا، ونجعله مزود لنضالنا بابتكار وسائل مقاومة ضاغطة على الاحتلال في كل الساحات.
غزة تقاتل من أجل توحيد الساحات، والاحتلال يسعى جاهدًا لتفتيتها، فالتفتيت يضر بقدرة شعبنا على الصبر والصمود في وجه عدوانه، كما يعين الاحتلال على دفع شعبنا نحو التسليم بكل ما تصل إليه أطماعه، ويمنح الاحتلال مساحة ضغط أكبر على شعبنا ليقبل العيش في نطاق الهامش الذي يحدده له، وما يساعده في بلوغ مسعاه ترك غزة وحيدة في كل عدوان تتعرض له كلما رفعت سوطها دفاعًا عن ساحة أخرى، كما يساعده ترك غزة حبيسة الحصار الملتف حول رقبتها منذ 15 عامًا، حصار جلب لها تداعيات كارثية لم تفلح في ثنيها عن الاستجابة لاستغاثات الساحات الأخرى.