فلسطين أون لاين

من أسرار الجمال المقدسي

"شيل البوابة".. طلبٌ جنّن المحتل

...
فلسطينيون يؤدون الصلاة أمام الأقصى احتجاجاً على البوابات الالكترونية (أ رشيف)
القدس المحتلة / غزة - فاطمة أبو حية

عجيبة هي الهبة المقدسية لأجل الأقصى، فيها من الجمال ما يفوق كل وصف، هذا ما يصلنا عبر الصور المنقولة من تجمعات المعتصمين حول أبواب ثالث الحرمين، ولكن ماذا عن التفاصيل التي غابت عنّا بسبب البعد الجغرافي؟!.. يبدو أنها أكثر جمالًا، لذا نرصد بعضها في السطور التالية، لنتخيّل الصورة الكاملة عبر قطعها التي يرسمها لنا المقدسي "طارق العكش"، الذي تحدث لـ"فلسطين" عمّا يجري في محيط الأقصى من بداية إفراغه من المصلين، وحتى منعهم من دخوله، وصولًا إلى رفضهم الدخول إليه رغم ما يعتريهم من شوق للسجود في باحاته..

الشعور بالمسؤولية


عملية "الجبارين" تمت في وقت مبكر من صباح الجمعة، لذا لم يكن عدد المتواجدين في الأقصى كبيرا، فقط بعض الشباب الذين كانوا يقرؤون "الكهف" في "المسجد القبلي"، ولأن الاشتباك كان على الأطراف، فلم يروه، ولم يشاهده سوى بعض الحراس في المنطقة.

بناءً على ما سبق، ظنّ المتواجدون في المسجد أن إخراجهم منه ليس إلا أمرا مؤقتًا، وأنهم سيعودون إليه لأداء صلاة الجمعة، لذا كان الخروج دون مواجهات.

تصاعدت الأحداث، واتخذ الاحتلال من العملية ذريعة لإغلاق أولى القبلتين، وهنا ظهر واحدٌ من أسرار الجمال المقدسي، ألا وهو "الشعور بالمسؤولية تجاه الأقصى"، وهذا هو "مفتاح كل الأحداث"، فالمقدسي في علاقته بالأقصى تماما كما هي الأم الحريصة على طفلها، تحنو عليه، وتدافع عنه وتحميه من الخطر أيًا كان الثمن، وهذا الشعور مزروع ٌفي نفوس السواد الأعظم من المقدسيين.

إذاً أعلن سرّ الجمال هذا عن نفسه، ولكن الإفشاء بالسر لم يبلغ درجاته القصوى لأن الاحتلال أعلن أن الإغلاق سيكون حتى الأحد فقط، فتعامل المقدسيون مع الحدث على أنه مؤقت، وأن دخولهم إلى مسجدهم ليس إلا مسألة وقت، صحيحٌ أنهم لم يتركوا الأقصى أبدا، وكانوا يجتمعون عند أقرب النقاط من الأبواب، فيقيموا صلواتهم، ولكن الأعداد لم تكن كبيرة، كما هي الآن.

وعندما حان الموعد المُنتظر لإزالة الشوق، فوجئ المجتمعون عند الأبواب أن الاحتلال قد نصب بواباتٍ إلكترونية، فأدركوا عملية تغيير الأمر الواقع التي تتم، لذا فضلوا الإبقاء على نار الشوق تحرقهم، على أن يطفئوها عبر بواباتٍ تعني أن الاحتلال يسيطر على المسجد ويتحكم بمن يدخله ويخرج منه.

في هذه اللحظات الحاسمة، كان مدير المسجد الأقصى الشيخ عمر الكسواني من أول الواصلين، ولمّا انتبه مع من كانوا معه إلى البوابات الإلكترونية وأدركوا دلالاتها، اتخذوا قرارا فوريا بعدم الدخول، وأبلغوا المتجمهرين بالأمر، وما كان من الجميع إلا أن تبنى وجهة النظر هذه.

ومن هنا بدأت فكرة الاعتصام، ولسان حال المقدسيين: "لن ندخل، ولكننا سنكون في أقرب نقطة إلى مسجدنا، وإن جئنا لصلاتنا ووجدنا البوابات الإلكترونية، فسنؤديها عند الأبواب، لن نترك الأقصى، ولن ندخله بشروط عدّونا".

عفوي

الاعتصام نشأ بطريقة عفوية تمامًا، عندما رفض المقدسيون الدخول عبر البوابات وبشروط الاحتلال، وفي الوقت ذاته رفضوا التراجع عن حقّهم في الوصول إلى الأقصى بحريّة.

ومن عجائب المدينة المقدسة، أن أهلها يتمسكون بها أكثر كلما تعرضوا لخطرٍ أكبر، فعلى سبيل المثال، يرتاد الأقصى مئات المصلين في الأيام العادية، ولكن المصلين عند الأبواب هم بالآلاف، وفي كل يوم يرتفع العدد عن سابقه.

تنتهي كل ليلة بأعداد من المصابين في المشافي، وآخرون عادوا إلى بيوتهم بـ"علامات ملّونة" من أثر الهروات، وغيرهم ممن وجدت الرصاصات المطاطية طريقها إلى أجسادهم، هؤلاء جميعا يعودون في اليوم التالي، فيجدوا من كانوا معهم أمس، ومنضمين جددا.

الكل موجود هنا، أشخاص توحدوا رغم خلافاتهم السياسية، وآخرون لا علاقة لهم بالسياسة أصلا، حتى أن الشخص البعيد كل البعد عن الدين والوطنية، تجده يتحول إلى إنسان آخر إذا مس الخطر الأقصى، ومن بين المصلين، ستجد ملحدا كان قبل أيام يقول: "أنا لا أؤمن بالله"، واليوم يقف في صفوفهم يبكي بخشوع مرددا "آمين" خلف دعوات الإمام، وقبيل الصلاة، شباب يسألون أهل العلم: "يا شيخ علمني أتوضأ، أنا ما كنت بصلّي".

انتفاض المقدسيين جميعًا يظهر أيضا بإمعان النظر أكثر في أحوال المعتصمين، تجد جارتك المسنة تخدم الموجودين، وذلك الطاعن في السن يتلقى ضربات الهروات ولكنه لا يبرح مكانه، وذاك المدير الذي يعيش حياه رفاه يقبل الإهانة بصدر رحب طالما أنها في سبيل الأقصى.

أماكن الاعتصام لا تفرغ من محبي الأقصى مطلقا، فهم موجودون على مدار الساعة، ولكن بأعداد تختلف من وقتٍ لآخر، فمنهم من يؤدي الصلاة ثم يعود إلى بيته، ومنهم يتخذ من "الكراتين" سريرا يبيت ليلته عليه.

وقت الذروة، من حيث العدد، يكون بين صلاتي المغرب والعشاء، في تلك المسافة الفاصلة بين الفرضين تُلقي بعض الشخصيات كلمات حماسية، وشباب يهتفون بشعارات تشعل النفوس، وذوو الأصوات الندية يرددون أناشيد تتناسب مع الواقع، وهنا لا تستغرب إن وجدت مسيحيا يردد معهم "لبيك إسلام البطولة والفدا.."، وفي كل ذلك رفع للروح المعنوية للمعتصمين، ناهيك عما تحمله حناجرهم من رسائل للمعتدي بأن القدس خطٌ أحمر، خاصة أن المعتصمين ترى أولهم ولا ترى آخرهم.

السمة البارزة

التجمعان الأكبر يكونان عند بابي الأسباط وحطة، لاتساع المكان هناك، أما الأماكن الأخرى فإمكانية التجمع فيها أقل لتداخلها مع المناطق السكنية، وهذه التجمعات تنشأ بشكل عفوي وتلقائي لا بتنظيم من جهة معينة، فمثلا أهل البلدة القديمة، وخاصة كبار السن، يصلّون أمام بيوتهم، بينما يتجه غير سكانها إلى تجمعات أخرى، ولتفرق الأماكن لا تكون الصلاة موحدة، بل في كل تجمع تُقام صلاة.

في وقت صلاتي المغرب والعشاء، يكون الاعتصام أكثر تنظيما، حيث يتواجد مشايخ الأوقاف، ويتم إلقاء الكلمات، وترديد الأناشيد.

في هذه الأيام، تفرَّغ بعض المقدسيين للرباط، ووهبوا له طاقتهم وجهدهم ووقتهم، فهم موجودون في أماكن الاعتصام على الدوام، هؤلاء يبدؤون يومهم بتنظيف المناطق المحيطة بالبوابات، وشطفها بالمياه، ليؤدي المصلون الفجر في مكان نظيف.

التكافل سمةٌ فلسطينيةٌ بارزة، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بمسرى نبينا؟، بالطبع لا يترك الفلسطيني يد أخيه في هذه الحالة، بيوت البلدة القديمة مفتوحة لمن أراد أي خدمة من أهلها، والمياه وزجاجات العصير يتم توزيعها على المعتصمين عدة مرات في اليوم، وكذلك الطعام، يشتريه الناس من المطاعم أو تعدّه النساء في البيوت، بالإضافة إلى توصيل الكهرباء من البيوت إلى أماكن الاعتصام، واستخدام السيارات الخاصة في نقل المصابين، وكذلك لنقل المعتصمين إلى أماكن الاعتصامات، أي أن كل مقدسي يخدم مدينته بما يستطيع.

"عقلية التناحة"

من المشاهد التي تتكرر مرات عدّة في اليوم، أن يطلب المصلون من الجنود إزالة البوابات الإلكترونية ليدخلوا المسجد، رغم علمهم بأن طلبهم لن يغير في الواقع شيئا، وأن الأمر يحتاج لقرار سياسي، ولكن فعلهم هذا يندرج تحت ما يسميه المقدسيون "عقلية التناحة"، وقد طورتها عندهم الظروف التي يعيشونها، فتجد الواحد منهم يقف أمام الجندي، قائلا: "شيل البوابة، بدي أصلي، ما بينفع تحط بوابة وتفتشني عند باب بيتي"، النتيجة أنهم بحواراتهم هذه "جننوا" عناصر شرطة الاحتلال.

ومما تتميز به الاعتصامات، أنها لا تشبه نفسها من يوم لآخر، ففي كل يوم تختلف بعض التفاصيل، كأن يكون المعتصمون موزعين بين البلدة القديمة وباب الأسباط، وفي اليوم التالي يمنع الاحتلال كل من لا يقيم في البلدة من دخولها، فينضموا إلى المعتصمين عند الأسباط ويصبح التجمع كبيرا وموحدا.

بعض ملامح الحياة تغيّرت في القدس لتتناسب مع واقعها الحالي، فقد ألغى العديد من المقدسيين حفلات زفاف كان موعدها محددا مسبقا، واكتفوا بإقامة أعراس مصغّرة على أضيق نطاق، ولأن الإغلاق حدث بعيد الإعلان عن نتائج الثانوية العامة، فقد ألغت بعض العائلات احتفالات نظّمتها لأجل أبنائها الناجحين.

بين التجمعات، وحولها، ينتشر الصحفيون لنقل الصورة للعالم، فتوصيل الرسالة هو شكل الرباط الذي اتجه نحوه الصحفيون المقدسيون، وأخذوا على عاتقهم تعريف العالم بما يجري.

الخطر لا يزول بالطبع، فالقمع حاضرٌ دون سبب، ودون أي فعل يصدر عن المعتصمين، ما إن تنتهي الصلاة، حتى تظهر وحشية الاحتلال، لكن أهل القدس لا يستسلمون لأي درجة من درجات هذه الوحشية، فبعد هذه الاعتداءات تفرغ الساحات لدقائق فقط، ثم تمتلئ بأهلها من جديد، يعودون إليها بكل قوة وكأنهم لم يتلقوا الضرب والرصاص والمياه العادمة وقنابل الصوت قبل قليل، هؤلاء الذين يعودون وكأن شيئًا لم يكن هم مدنيون بسطاء، ليسوا محاربين.

"أجمل صلاة"، "أكثر خشوع"، "أفضل أيام حياتي".. هذا الجمال يُجمع عليه كل من وطأت قدماه ساحة الاعتصام، رغم كل ما فيه من خوف وتعب، وكأنهم في "دورة تدريبية عملية" على حب الأقصى، لا تتأتى نتائج مماثلة لنتائجها بأي وسيلة أخرى.

تلك الأجواء لا يعيشها المقدسيون وحدهم، فمثلا من فلسطينيي الداخل المحتل من قرر أن يكون بين المرابطين.

هذا "الجمال" يحدث في مركز البلدة القديمة وقرب بابي الأسباط وحطة، وعلى مسافة أبعد قليلًا، حيث الأحياء المقدسية "سلوان" و"رأس العامود"، وغيرهما ثمة وجه آخر للدفاع عن القدس، حيث المواجهات المباشرة مع الاحتلال، هناك يلقي الشباب الحجارة على جنود الاحتلال، فيأتيهم الرد بالرصاص، فيصاب منهم من يُصاب، ويرتقي الشهداء.