يعرض لنا الحديث النبويّ الخطير المختصِر لطبيعة تأثير البيئة في صاحبها مسألةَ صرفِ المرء عن فطرته التي خُلق عليها، فيهوِّدُه أبوه اليهوديُّ، أو يحدوه تقليدُه الطبيعيّ وإسفنجيتُه الطفولية أن يكون متنصّرًا كأمّه، أو لعلّ اختلاطَه بمجتمعه المجوسيّ يشوّه لديه كمال الصورة فلا يراها إلا تمجيسًا لجميع المجتمعات، فيضع رأسه بين هاتِه الرؤوس دون أن يبحث أو ينقّب أو ينقّر.
..
لكنْ للبيئة تأثير أعمق من هذا وأخطر وأقْلق (أكثر داعيًا للقلق)، أكثر مما سلّط عليه ظاهرُ الحديث الضوء على المستوى العقديّ الذي يصعب تغييره إلا بإرادة القدَر أو إتحاف الواقع أو تغيير الأرض، وهذا الأمر هو متلازمةُ ارتباط الأخلاق انحرافًا واستقامةً بما ينشأ المرءُ عليه؛ فليس الوالدان أو أحدُهما محتاجًا في حرف ابنهما عن مسار الأخلاق والاحترام والحياء وكل هذه المعاني الجميلة أن يزرعا فيه الفساد والمرض، بل إنّ بيتَهما يمثل المسرحَ اليوميَّ الإجباريَّ الذي تخزِّن فيه ذاكرةُ الابن جميعَ تفاصيل ما يشاهده دون أن ينسى شاردة ولا واردة؛ إذ الصفحة بيضاءُ، والذاكرة فارغة، والقدرةُ على التخزين بل والاستدعاء ليس أمامها ما يعيقها أو يؤخّر مساعيها، بل وتكون لديه القدرة التصنيفيّة للأفعال التي يراها، ولن تكونَ المسألةُ لديه بحُسبانٍ بميزان؛ إذ لا قدرة له على القياس دون توجيه، فيصبح لديه الميزانُ مع الزمن ما رآه من أبويه وتعلمه منهما صامتيْن أو صائتيْن، فهما بهذا الاعتبار إما يتركانِه، أو يوجّهانِه، أو يحرفانِه، أو يلغيانِه، أو يأكلانِه، أو يعقّلانِه، أو يعْقلانِه!
..
فإذا ما انطلق في ميدان الحياة، وكان الحياءُ في مهده الأولِ قد أريقت مياهُه وديست حرماتُه، لم يبقَ له عنده أدنى قيمة، بل ربّما وبّخ الحيِيَّ وأدان السويّ، وأدنى القميء وانتهر البريء، فكيف يكون للأدب وحسن الخلق عنده اعتبارٌ وقد امتطى خلافَهما وارتضى حربَهما، وليست القضية هنا عنادًا منه بقدر ما هي تقليد أعمى أو توهّمٌ ظنّ معه أنّ ما يخالف ما رآه من والديه هو الخطأ المحض والإثم البحت الذي عليه أن يحاربه دفاعًا عن إرث الوالديْن، وحمايةً للبشرية من رجعية وتخلفيّة!
..
ومَن يستطيع أن يقنعَ مثلَ هذا إلا بزمنٍ يطول، وأدواتٍ متنوّعة، وقدرةٍ على سبر طولِه ومعرفة طوْله وتحليل عَرضِه وفهم بيئته وأرضِه، كلُّ هذا مع طول نفَس وحسنِ تأتٍّ وعدمِ يأس.
على أنّ هذه البيئة قد ينجو منها صاحبُها بلطف القدر بأخلاق والديه، إلا أنه يُبتلى ببيئة إجبارية غيرها يطول فيها مكثُه؛ كأن يكون أكثرُ وقته مقضيًّا في عمله وبين زملائه، أو يغيبَ عن أسرته وأهله سنواتٍ أربعًا أو سبعًا للدراسة حتى يتغيّر لديه مزاجُ كلامه وطبيعةُ تصرّفه، فربما يوافق أصدقاءَ غرابيّين يدلونه على جيَف الأخلاق ومنتِن الأفعال وفاسد الأمور، كلّما حاول الفكاك ورغب في الانفكاك لاطمته أمواجُهم وضاقت عليه فجاجُهم وغلبه على نفسه منطقُهم وحِجاجُهم بالعدد لا بالحقيقة، وبالتكرار لا بالقدرة في ذات المنطق.
..
إنّ هذه البيئةَ الفاسدةَ المعتمةَ من كل اتجاه أو التي يغلب عليها هذه الطِّباع لا يمكن أن يتغلب عليها هذا الغضُّ وإن تسلّح بالتقوى والدعاء والتعبّد اللطيف لربه العظيم سبحانه؛ إذ لا يمكن مع كل هذا أن يخالف الناموس العامّ الذي يجعله يغرق إذا لم يتعلم التريّض بالسباحة، أو يحترق إن أسقط نفسه في نارٍ راضيًا، وربما مات اختناقًا لابتعاده من مصدر الهواء والتنفّس الطبيعيّ، فما بالك وهذه الأجواءُ تصفّق له إن أخطأ، وتبتسمُ له إذا سبّ وشتم، وتضحكُ ملء الفم إذا تنقّص من كبير أو اعتدى على صغير ولم تسلم منه دواجن البيت وأليفات الشوارع!