أطل "علينا" في الأيام القليلة الماضية من جديد وزير الحرب السابق رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك، مهاجمًا من بات "خصمه اللدود"، الذي خلفه في المنصب، بنيامين نتنياهو، قائلًا: "إن نتنياهو يجر (إسرائيل) نحو التطرف القومي الذي يشكل خطرًا عليها"، ودعا إلى إنشاء حركة شعبية للإطاحة بنتنياهو انتخابيًّا.
وهذا أنموذج للعديد من أمثال باراك، حاليًّا وعلى مر السنين، الذين يحاولون الظهور بأقنعة مزيفة، في محاولة للعودة إلى الحلبة السياسية، لكنهم فور عودتهم يتحركون بـ"نسختهم الأصلية"، وينافسون في التطرف.
في السنوات الأخيرة _وتحديدًا ابتداء من عام 2011م_ شهدنا العديد من قادة الأجهزة الاستخبارية والعسكرية الذين فور أن أنهوا عملهم بظروف كهذه أو تلك شنوا معركتهم محذرين من خطورة نتنياهو في الحكم، وأنه يجر الكيان العبري إلى متاهات تهدد مستقبله، وشرعت وسائل الإعلام تضع سيناريوهات المرحلة المقبلة، بخصوص الاصطفافات الحزبية المتوقعة، وكان آخرها مطلع الصيف الماضي، حينما أقال نتنياهو وزير الحرب موشيه يعلون، لمصلحة الوزير الحالي أفيغدور ليبرمان، لكنه بعد بضعة أسابيع تلاشى كل هذا، وبالإمكان القول: إن الجمهور الذي منح يعلون مقاعد برلمانية كثيرة في استطلاعات الرأي هناك شك في أنه لا يزال يذكر تلك الاستطلاعات، وأجوبته فيها.
أما إيهود باراك فإنه يتلاعب بأوراق محروقة، ولا حاجة إلى ذاكرة بعيدة لواحد من أكثر جنرالات الحرب الإسرائيليين دموية، منذ أن كان ضابطًا شابًّا على المستوى الميداني، يرتكب الاغتيالات في وسط بيروت، "متخفيًا بلباس امرأة"، كما يحلو له أن يذكّر العالم، من حين إلى آخر؛ فباراك حينما كان رئيسًا لحزب "العمل" للمرّة الثانية في عام 2009م جرّ حزبه إلى حكومة بنيامين نتنياهو، بعد انتخابات ذلك العام، مع أن التوجهات اليمينية المتطرفة هي التي تسيطر على شخص نتنياهو، وقاوم باراك معارضة شديدة في صفوف حزبه، وفي الكتلة البرلمانية، ولاحقًا حتى بين الوزراء الذين قبلوا الدخول في حكومة نتنياهو؛ للاستمرار في الحكومة، وفي مطلع عام 2011م حينما أدرك أن تصويتًا في الكتلة البرلمانية، وفي المجلس المركزي للحزب سيقضي دون شك بالانسحاب من حكومة نتنياهو، التي تولى فيها حقيبة الحرب؛ بادر إلى شق الحزب الذي يرأسه، ليبقى مع بعض النواب في الائتلاف الحاكم.
وبالإمكان القول: إن باراك هو من ضمن لنتنياهو أن تستمر ولاية حكومته أربع سنوات كاملة، وهي الحكومة الأطول زمنيًّا منذ عام 1996م، ليس هذا فحسب، بل إن باراك بموجب "صلاحيات" وزير الحرب بصفته الحاكم العسكري الأعلى للضفة المحتلة أقر سلسلة من المشاريع الاستيطانية الكبيرة في الضفة، أبرزها أنه حسم جدلًا كان قائمًا في النظام الصهيوني الحاكم، على مدى سنوات، بأن صدق على تحويل كلية أكاديمية في مستوطنة (أريئيل) في منطقة نابلس إلى جامعة إسرائيلية، مع اعتراض مجلس التعليم العالي الإسرائيلي، واعتراضات دولية، حكومية وأكاديمية.
قبل هذا إن باراك هو من رفع شعار "لا يوجد شريك فلسطيني" لإبرام اتفاقية للحل، منذ عام 2000م، وهو من مهّد لتسلم أريئيل شارون الحكم في مطلع عام 2001م، إضافة إلى أنه من وراء العديد من الإجراءات والمسارات التي لا تزال آثارها قائمة حتى اليوم، وأدت كلها إلى تفجير المسار التفاوضي مع الجانبين الفلسطيني والسوري.
ما يراد قوله هو: إن باراك كغيره، ليس أكثر من سياسي مارق على أحد المنابر، يثير ضجة إعلامية تستمر مدة قصيرة جدًّا بعد نزوله عن المنصة، أما واقع الحال فإن هذا كله لا يؤثر على استمرار تعزيز سيطرة اليمين الأشد تطرفًا في الحركة الصهيونية على النظام الحاكم، لأن الغائب ليس نجمًا سياسيًّا كهذا أو ذاك، بل بديل سياسي حقيقي وملموس، فكل الأحزاب الصهيونية عدا الحزب الصغير "ميرتس" الأبعد ما يكون عن فلك السلطة؛ كلها تلعب وتتنافس في حلبات التوجهات العنصرية المتطرفة.