لم يبخل الفلسطيني في القدس على وجوده ومقدساته بالثبات والاستبسال وتجرع وجع الأذى في معركة التصدي للمستوطنين ولمسيرة أعلامهم، رُغم ضراوة وقساوة ما نزل على جسده من اعتداء وعدوان أوسع رجالنا، ونساءنا، وأطفالنا بطشًا وتنكيلا لم يجردهم من الإصرار على مواجهة مسيرة أعلامهم التي جرت العادة أن تكون مناسبة لاستعراض شتى انتهاكاتهم واستفزازاتهم العاكسة لأخلاقهم القادمة من ثقافتهم المكتظة بالجارح المُسيء للآدمي، والمؤكدة لحقيقة بغضهم الشديد للعرب.
29-5-2022 سيبقى استثنائيًا في شهادته على العدوان على المسجد الأقصى، فقد اختزنت ذاكرة صباحه مشاهد اقتحام وتدنيس لم يعهدها المسجد الأقصى من قبل لا في أعداد المستوطنين، ولا في انتهاكاتهم التي خرجت عما اعتادوا سلفًا اقترافه، ففي سابقة غير معهودة فعلوا في باحات المسجد الأقصى كل ما جعلناه عليهم حراما، رفعوا أعلامهم ورددوا الأناشيد وأدوا طقوسهم التي لم يغب عنها التمرغ في باحاته (ما يسمونه السجود الملحمي) وذلك في حماية شرطتهم التي اعتادت خلال جولات الاقتحام سالفة الحدوث منعهم اقتراف انتهاكاتهم سالفة الذكر خوفًا من غضبةِ الفلسطيني، كما اختزنت ذاكرة مسائه مشاهد انتهاكات مسيرتهم التي تكشف في كل عام الوجه الحقيقي لأولئك الذين حرصوا خلال مسيرةِ عامهم هذا على صناعة سلوكياتهم وفق مقاييس ومواصفات تنوء بقلوبِ أولي الضمير الحي من أبناء شعبنا وعموم أمتنا وأحرار العالم.
البريد الوارد من المشاهد التي اختزنتها ذاكرة اليوم المذكور يحمل رسائل ذات استخلاصات عدة تقرؤها هذه السطور :
أولًا : يجب التسليم بحقيقة أن انتهاكات المستوطنين هذا العام في باحات أولى القبلتين خرجت عن المعتاد وتجاوزت خطوطًا شديدة الاحمرار، وهذا يفرض على الساحات الفلسطينية الخمس (القدس، الداخل المحتل، الضفة، غزة، الشتات)وضع استراتيجية مواجهة تُخيف الاحتلال وتردعه وتجبره على التراجع عن أطماعه في المسجد الأقصى.
ثانيًا: مناسيب نضج وحكمة المقاومة في غزة ارتفعت بمستويات جعلتها قادرة على الوقوف عند مسار تعاملها مع الحدث، ودراسة أبعاده بتجرد حمى قرارها من ضغوط العاطفة الواقعة طبعًا تحت تأثيرات المشهد المؤلم، وهذا القرار جلَّى لنا حقيقة أن عقال قرار المقاومة ليس منفلتًا متحررًا من حسابات الهدف المرجو تحقيقه، وكلفة تحقيقه، والأدوات الأقل كلفة لتحقيقه، وهي حسابات يجب أن تكون حاضرة بدقة، طالما أننا لا نتحدث عن معركة التحرير التي تراكم المقاومة قوتها سعيًا لبلوغ القدرة على خوضها مع باقي الساحات، كما لم يتأثر قرار المقاومة بالانتقادات العاطفية التي طالت هذه الحكمة.
ثالثًا: تحييد المقاومة في غزة سلاحها العسكري ترك فُسحةً لباقي الساحات لتنشط بفعلها الشعبي المقاوم الذي يشق صدى تأثيره العاطفي سبيله إلى الشعوب غير العربية وغير المسلمة المتعاطفة اليوم مع الشعب الأوكراني والمشمئزة من فكرة وجود احتلال.
رابعًا: حكمة غزة أرادت إيجاد فُسحة لينشط الغاضبون في الضفة والداخل المحتل من جرائم الاحتلال ومستوطنيه بحق المسجد الأقصى، ويتحركون للتعبير عن غضبهم بالطريقة التي تجعل الاحتلال يدفع أثمان حماقاته، وتضغط عليه وتجعله يفهم ويعي خطورة المساس بالمسجد الأقصى.
خامسًا: السابقة الاستثنائية لاحتشاد المستوطنين في مسيرة الأعلام ورغم أنهم أرادوه رسالة قوة، لكنه عكس تجذر الشعور بالضعف والخوف في نفوسهم المسيطر عليها هاجس الزوال، فمن يمتلك القوة لا يحتاج إلى إظهارها بهذا البطش والعدوان.
سادسا: تهديدات المقاومة في غزة وإن ارتفع سقفها كانت وجهتها الاحتلال بغية الضغط عليه وإجباره على الوقوف عند الخطوط الحمر التي رسمتها معركة سيف القدس.
تفهم حكمة المقاومة في غزة أراه واجبا وطنيا، كونها منشغلة بتأمين الممرات العسكرية والأمنية التي تعينها على مراكمة قوتها، لتكون جاهزة لخوض معركة التحرير، فالحكمة تقتضي عدم دخولها في معارك تنفق فيها بعضًا من قوتها تحتاج لتعويضها إنفاق وقت إضافي جديد يباعد بينها وبين ساعة صفر المعركة الكبرى، ووسط هذا الحديث علينا الوقوف عند مشهد مهم، وهو ما شهدته مدن ضفة البطولة والداخل المحتل خلال يوم مسيرة الأعلام من حراك شعبي لم يكن كافيًا لبلوغ مستوى الزخم القادر على إحياء وبعث ضغط حقيقي ينتزع من الاحتلال ومستوطنيه حالة الطمأنينة والارتياح الساكنة فيهم، ويدخلهم كرها في قبضة الرعب والخوف اللذين أثبتت التجربة أنهما يلعبان دورًا في تراجعهم عن مخططاتهم ولو إلى حين ، فعلينا التفريق بين الفعل المقاوم المؤثر والضاغط على الاحتلال، وبين الفعل المتضامن مع المسجد الأقصى، فالمساحات الفاصلة بينهما واسعة يستفيد منها الاحتلال في تنفيذ مخططاته بلا أدنى مشقة.
ما استعرضناه يبين أهمية حكمة المقاومة في غزة وخطورة غيابها عن باقي الساحات، لكن نحن على يقين أن ضفة البطولة والداخل المحتل قادران على استثمار حجم الغليان المختلج في صدور أبطالهم، وعلى ترجمته إلى فعل مقاوم صانع لقيود الذعر ولفها حول رقاب الاحتلال ومستوطنيه الذين يشكلون فريسةً سهلةً للاصطياد.