فلسطين أون لاين

​بُترَت ساقه فتفوق رياضيًا

"أبو رحمة".. تعلّم التطريز في الخفاء ثم افتخر بمنتجاته

...
غزة - عبد الرحمن الطهراوي

عندما همس الشاب عمر أبو رحمة في أذن زوجته قائلًا: "أرغب في تعلم فن التطريز" ظنته بدايةً يمزح، لكنها حين نظرت إلى ذلك الحزم في عينيه عرفت كم كان جديا بطلبه.. على الفور أحضرت له قطعة من قماش "الكانافا"، وإبرة تطريز وخيوطًا بألوان علم فلسطين، ثم نموذجًا لخارطة الوطن وقالت له "تتبع الغرز.. وجرب حظك".

لم يعرف عمر كيف يبدأ وهو الذي لم يمسك إبرة من قبل، لكنه سمى بالله وانطلق! ورغم أنه لم يكن يعرف إذا ما كان يسير على الخط الصحيح في تشكيل الغرز أو لا، كان ينتظر بشغف رؤية المخرج النهائي لكل الجهد الذي كان يحاول بذله في الخفاء عن أعين المقربين، "خصوصًا أن فلسطين ككل، كانت نادرا ما تعرف رجلا يمتهن التطريز".

بعد عشرة أيام كانت المفاجأة الخارطة مكتملة الحدود من النهر إلى البحر، والزوجة الطيبة في غاية السعادة بإنجاز زوجها العظيم، والأجمل من كل هذا أن الرجل قرر أن يكون "التطريز" مشروعه الأول لكسب الرزق بعد أن منعته ساقه المبتورة منذ أن كان بعمر 15 عامًا من العمل في أي مجال يتطلب جهدا جسديا.

بمحض الصدفة، وبعد عدة أيام مرّت على ذلك الموقف، تخللها العديد من التجارب الناجحة في تطريز قطع أخرى، اطّلعت زوجة أبو رحمة على إعلان نشرته صفحة مشروع "إرادة" على منصة التواصل الاجتماعي "فيس بوك" تتحدث عن انطلاق مشروع جديد بعنوان "خلق فرص عمل للأشخاص ذوي الإعاقة"، وبتمويل من الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون تحت إشراف (UNDP)، فأخبرت زوجها بالأمر.

لم يكذب الرجل العشريني خبرًا، وانطلق يقدم أوراقه هناك ليلتحق بأحد التخصصات، لم يختَر ورشة التطريز، بل اتجه نحو "ورشة النجارة والحرق على الخشب"، وذلك حتى يستطيع إنتاج قطع خشبية مطرزة من ألِفها إلى يائها "التطريز والقص والتشطيب"، وهو الأمر غير الموجود في شخصٍ واحد داخل قطاع غزة.

المزاوجة بين مهنتين

في "إرادة" يبدأ يوم الشاب الطموح في ورشة النجارة والحرق على الخشب تمام السابعة والنصف صباحاً، لينتهي عند الثالثة عصراً، فيما قد يتخلله وقوف أمام بعض الآلات، كمنشار الزاوية، أكثر من ساعةٍ خلال النهار، بالإضافة إلى التنقل بين استخدام العديد من الآلات كجهاز البرداخ ودباسة الليزر وغيرها.

يقول لـ"فلسطين": "أستطيع الآن وبكل سهولة، استثمار قطع التطريز التي أنتجها بنفسي بصناعة علب مناديل ورقية، ومضايف للحلوى خاصة بالمناسبات، وصواني كاملة التشطيب لتقديم الشاي وأكواب العصر".

ويضيف أن ما سبق سيميز مشروعه القادم إن أتم تجهيزه، "ففي قطاع غزة من يتقن التطريز لكنه لا يعرف شيئاً عن التشطيب، ويلجأ إلى نجار كي ينهي إنتاج القطعة، والعكس صحيح، فالنجار غالبًا لا يمتلك مهارة التطريز، وهنا قررت جمع الأمرين معًا".

ويتابع: "بدأت مجال التطريز بخجل، في الخفاء عن عيون الناس، لكنني اليوم فخور جداً باختياري هذا المجال، وعلى العكس، أعرض منتجاتي عبر صفحتي الشخصية على فيس بوك، وأرى في ردود أفعال الناس وإعجابهم بها ما يؤكد لي أنني على الطريق الصحيح".

طموح عمر اليوم ليس على صعيد "المادة" وتكوين مشروع يكسب منه قوت يومه وحسب، بل يمتد إلى ما هو أكثر من ذلك عندما يوصل لطفلته التي تبلغ اليوم من العمر بضع أشهر رسالة تقول: "طالما أن العقل موجود، والقلب راضٍ بأقدار الله، فلا إعاقة يمكن أن تحد الطموح".

عمر (25 عامًا) الذي يمشي اليوم مستعيناً بعكازين، كان فتىً رياضيًا من الدرجة الأولى، يحب لعب كرة القدم، ويتفوق على أقرانه فيها، ولما أصابته بعض الآلام في ساقه اليسرى، اكتشف الأطباء التهابات حادة فيها، تطورت إلى مضاعفات خطيرة اضطرتهم إلى بتر الساق إلى بداية الفخذ فيما بعد.

المدهش في حالة عمر أنه وبمجرد خروجه من المستشفى، ولطبيعة شخصيته المرحة والاجتماعية، عاد لينخرط مع جمهور أصدقائه القدامى، لا بل وعاد إلى نشاطه الرياضي الأول في نادي الجزيرة، ليختاره النادي فيما بعد كلاعب منتخب فلسطين لألعاب القوى الخاص بذوي الإعاقة.

مطابقة المعايير

منال حسنة منسقة العلاقات العامة في مشروع "إرادة" تؤكد أن عمر من الأشخاص ذوي الإعاقة الذين يمتلكون إصراراً مذهلاً على الاستمرار، وإيماناً بالنفس والقدرة منقطعة النظير، لافتة إلى أن التخصص الذي اختاره للتدريب في المشروع يُعد تحدياً كبيراً بالنسبة لنوع إعاقته.

الأهم من هذا كله، والحديث لحسنة، أن للشاب أبو رحمة هدفا واضحا، ومستقبلا يخطط له بعناية، وقد استطاع خلال أربعة أشهر إنجاز منتجات بجودة عالية، وهذه هي أهم المعايير التي يتم اختيار الملتحقين بمشاريع "إرادة" على أساسها.

و"إرادة" هو مركز مهني مرخص من قبل وزارة العمل، هدفه دمج الأشخاص ذوي الإعاقة في المجتمع، وتقديم خدمات خاصة لهم في مجالات التدريب المهني وتطوير القدرات والمهارات حتى يصبح لكل منهم مصدر رزق خاص يعتاش منه.