فلسطين أون لاين

قدمت من الأردن بعد وفاة زوجها قبل 4 سنوات

تقرير غادة سباتين .. أبناؤها الستة فتحوا صفحة الفقد الثانية

...
تشييع الشهيدة سباتين (أرشيف)
غزة/ يحيى اليعقوبي:

سيدة فلسطينية في منتصف عقدها الرابع، تسير على رصيف المارة ببلدة حوسان غرب "بيت لحم"، عائدة إلى بيتها، وعندما قابلت جنود الاحتلال بادرت برفع يديها لتؤكد لهم أنها لا تحمل شيئًا، لا تريد أن يعدمها جنود الاحتلال كما فعلوا بعشرات الشهداء قبلها لمُجرّد الاشتباه، تريد  العودة لأبنائها الستة الذين ينتظرونها بالبيت.

أشهر الجندي الإسرائيلي بندقيته في وجهها؛ وداست أصابعه على الزّناد ليطلق رصاصة "دمدم متفجر" اخترقت ساق غادة  سباتين وفجّرت أحد الشرايين الرئيسية، وتركها مُلقاة  تتقلّب ببطء على  الأرض تنزف لأكثر من خمس عشرة دقيقة، أنفاسها ظلّت تصارع الموت، تتشبّث بالحياة.

اتصال يرِد شقيقها علي من أحد أقربائها المتواجدين بالمكان، بعد ثلاث دقائق من الحدث، الساعة الثانية عشرة ظهرًا يوم الأحد (10 إبريل/ نيسان 2022)، المتصل بصوت مُتوتّر ينقل إليه الخبر ويطلب منه الحضور  حالًا: "أخت غادة تصاوبت!" أغلق علي القريب من المنطقة التي حدّدها المتصل، وكان خلال ثلاث دقائق متواجدًا بمنطقة الحدث.

هنا .. جرس رنين الهاتف يرتجّ بيدَي "منصور" أثناء تواجده في العمل، المتصل (شقيقه) يحاول جسّ نبضه: "كيفك شو الوضع عندك؟"، اعتقد منصور أنّ الأمور ستنتهي عند حدود اتصال عائلي، ابتسم: "والله تمام مبسوط، بشوفك المغرب نصلي التراويح مع أمي؟"، ليدخل الأول في قلب الموضوع بعد تمهيدٍ سريع: "شفت صورة وخبر لأمي بحكوا إنها مصابة بس بسيطة" منصور الذي كان يخشى على أمه من شوكة تجرحها، فحمل نفسه لمنطقة الحدث.

لحظات عصيبة

في منطقة الحدث، لم يرقْ لعلي رؤية شقيقته مُمدّدةً على الأرض، ويُحيط بها الجنود يحاولون منع عملية إسعافها، فتقدم هو وخالته التي رافقته مُحاولًا الضغط على الجندي، الذي لا زال يُشهر سلاحه في وجهه لكنه أصرّ على إسعافها "هاي أختي، أنت ليش طخّيتها!؟ .. ما معها شي"، لم يردَّ على تهديدات الجندي وهو يُصوّب فوهة بندقيته تجاهه ويطلب منه الابتعاد، ليستطيع هو وخالته وبعض المواطنين نزعها من الجنود الذين يُصرّون على تركها تنزف حتى الموت، ونقلوها لمستشفى "بيت جالا" الحكومي وكان قد مرَّ خمس عشرة دقيقة منذ لحظة إطلاق النار عليها.

لحظات عصيبة عاشتها العائلة في المستشفى، ترقّب، انتظار، قلق، تطفو على حديث علي مع  صحيفة "فلسطين": "في طريقنا إلى المشفى لم تكن مُستشهدة ولم تكن غائبة عن الوعي، لكنها لم تستطع التحدّث كانت تنظر إلي، وتمسك يدي، شعرت أنها توصيني على أبنائها فلم يكن يشغلها أيّ أمر سوى ذلك، وبعد عشر دقائق من دخولها المشفى بدأت حالتها تتغيّر وصحّتها تتدهور، ونحن ننتظر في الخارج بخبرٍ يُبرّد  قلوبنا نعود به إلى أبنائها".

 "أعظم الله أجركم" .. قالها له الطبيب بعدما خرج من غرفة العمليات وربت على كتفه، وهو ينزع قفّازيه رغم بذلهم محاولات عديدة لإسعافها، لكن لم يكن سهلًا على شقيقها الإنصات لهذه النهاية، غاب في صمته قبل أن يسأل الطبيب: "خلص استشهدت!؟" صوته المسكون بالألم بالكاد استطاع النطق: "بدنا الجثة" ندفنها، وهو الذي كان بين لحظات يتشبّث بالأمل  بأن يعود بها لأطفالها.. والآن لا "يعرف بأيّ وجهٍ سيعود إليهم!". 

احتار ماذا سيقول لابنتها نور (23 عامًا)، وماذا سيقول لمنصور (21 عامًا) أكبر أبنائها، ولمحمد (18 عامًا) ومصطفى (15 عامًا)، وجميلة (14 عامًا) ولآخر العنقود عمر (11 عامًا).

كانت أمام علي مهمة صعبة في نقل الخبر لأبنائها الستة، "حقيقة كنت أمام أصعب شيءٍ في حياتي، لكن ما هوّن الأمر أنّ ابنَيها منصور ومحمد، واللذان يعملان لمساعدة أمّهم عرفا باستشهادها ، ، أما أبنائها الصغار فعرفوا عندما جاء الجيران والأقارب للمنزل، حينما كانوا ينتظرون والدتهم  على عتبات البيت، فحاولنا كثيرًا تهوين هذه الصدمة التي أصابتنا".

زيارة عائلية

"شقيقتي كانت في زيارة عائلية لأقاربنا وهي تعاني من "ازدواجية نظر" أحيانًا، وعند اقترابها من نقطة التفتيش داخل قرية حوسان والمعروف بقيام جنودها بالتضييق على الناس وطلاب المدارس وتأخيرهم، وبدلًا من أن تذهب للرصيف الآخر، قطعت الشارع تجاه نقطة التفتيش، وهنا ارتبكت حينما أشهر الجنود أسلحتهم تجاهها، حاولت رفع يديها لتؤكد أنها لا تنوي فعل شيء، لكنهم لم يعطوها فرصةً فاستشهدت على الفور" بصوت مقهور يعلق شقيقها على طريقة إعدامها.

أثناء وداعها، وقف منصور بملامح باهتة، لم يستطع حبس دموعه وهو يرى والدته محمولةً على الأكتاف لم يجد ردًا على سؤاله "ليش قتلوكِ يا أمي؟"، جميع المُعزّين حاولوا مواساته وتخفيف وطأة الألم الذي يضرب قلبه، فبات عليه حملًا ثقيلًا ليكون بعد والديه الأب والأم لأخوته مُعاهدًا روحها أمام الجميع "من الآن سأصبح أبًا وأمًّا لهم".

تخرّجت غادة من جامعة بيت لحم تخصص رياضيات مع مرتبة الشرف، تزوّجت في الأردن  وعاشت هناك وأنجبت أبناءها الستة وعملت مُدرّسة في الأردن مدة اثني عشر عامًا.

لكن في يوم رأس السنة وبينما كانت العائلة تنتظر فتح أولى صفحات عام 2018، فتحت صفحات الفقد الأول، فأُصيب زوجها بجلطة تُوفّي على إثرها، وعادت هي وأبناؤها إلى قرية "حوسان" للعيش قريبة من عائلتها، وعملت في تدريس الرياضيات أيضًا وكرّست حياتها لأجل أبنائها، وكان لها نصيب من الفرحة بزفاف ابنتها نور.

أزال علي أقفال الصمت عن صوته، للحظات توقّف عن الكلام، قبل أن يُحرّك كلماته المقهورة "قبل زفافها كانت تُدرّسنا الرياضيات، وبعدما تزوّجت كنّا نذهب عندها في الأردن (..) حينما تُوفّي زوجها شاركناها مأساتها كعائلة تيتّمت ووقفنا بجانبها، ونشهد أنها لم تُقصّر تجاه أبنائها، كانت حريصة عليهم، تجتهد في إعطاء دروس خصوصية كي تُؤمّن مصدر دخلٍ لهم".

صورة من الذكريات تقفز أمام حديثه "أكثر شيء لا أنساه، عندما كانت تُدرّسنا الرياضيات وتُحفّزنا بالهدايا عندما نتفوّق، الجانب الآخر التزامها الديني فقوّت الوازع الديني لدينا".

المائدة الأخيرة

صوت ابنها منصور بالكاد استجمع قواه وهو يروي اليوم الأخير الذي جمعه بوالدته "جلسنا على مائدة السحور، بعدها صلّينا الفجر ثمّ أفطرنا وصلّينا التراويح معًا، وجلسنا معها نتحدث عن أمور حياتنا في البيت ومستقبلنا، في اليوم التالي عرفت بالخبر من خلال اتصال أخي بي".

رحلت والدتهم وبقيت مواقفها وذكراها، في ذاكرة منصور يعلَقُ هذا الموقف الأمومي "نحن عائلة وضعنا المادي ضعيف، فالأغطية بالكاد تكفي لكلّ واحد ملاءة، في يومٍ مرضت بنزلة بردٍ قوية، ولم يكن لدينا وسائل تدفئة، فجاءت أمي وغطتني بملاءتها وجلست هي على الكرسي حتى الصباح تتابع حالتي" ثم  ألقى على روحها السلام.

جلس منصور وإخوته على مائدة السّحور بعد غياب أمّهم بيومين في أول جلسة بدونها، كانت فيها دموعهم أسرع من لقمة الطعام التي لم يستطيعوا تناولها.

اهتزّت مشاعر العالم لسيدة أوكرانية حامل هربت من القصف الروسي وربّما وضعت مولودها الآن بسلام، بينما تصلّبت مشاعرهم وتحجّرت أمام سيدة فلسطينية لم تعد لأطفالها وأبنائها الستة، الأولى بقيت حيّة فثار لأجلها العالم، الثانية استُشهدت بجريمة مُروّعة ولم تعد لأبنائها.