ما فتئت الدول الأوروبية والولايات المتحدة منذ أكثر من عقد من الزمن وهي تكيد لتركيا، وتخطط لمحاربتها ومنع تقدمها وتطورها وحصارها، ومحاولات إسقاط رئيسها الطيب أردوغان، فجون بايدن الذي كان نائب رئيس الإدارة الأمريكية التي رعت محاولة الانقلاب الفاشلة على تركيا عام 2016، بايدن الذي تحدث وتوعد بإسقاط أردوغان في حملته الانتخابية، وهو من أبقى على منع تزويد تركيا بمنظومة الدفاع الجوي باتريوت وهو من أصر على منع تركيا من الحصول على طائرات F35 وضغط على دول وشركات أوروبية لمقاطعة تركيا بتزويدها بالصناعات العسكرية.
أرادت كل من أوروبا وأمريكا مرات عديدة نشوب الحرب بين روسيا وتركيا بشكل مباشر، من خلال مؤامراتها مثل حادثة إسقاط الطائرة الروسية فوق تركيا، وكذلك اغتيال السفير الروسي في تركيا على الهواء مباشرة، وأيضاً استغلال التنافس والصراع الميداني بين تركيا وروسيا في ليبيا وسوريا وأذربيجان، ولكن كل محاولاتهم باءت بالفشل، وربما لو لم تحدث الحرب الروسية الأوكرانية، كانت الأنظار الغربية متوجهة نحو تدمير تركيا قبل بلوغ أردوغان لعام 2023 حسب التهديدات الغربية، أما الآن يسعى الغرب بكل جهده على توريط تركيا بالحرب الدائرة، ولكن بعد مرور أكثر من ستة أسابيع على الحرب لم تفلح جميع محاولاتهم، بل استطاعت تركيا أن تحولها من أزمة كبيرة لها، نظراً لقربها الجغرافي من روسيا وأوكرانيا وعلاقتها الواسعة بالبلدين، إلى منحة وفرصة كبيرة، بفعل الدبلوماسية الرشيدة للقيادة التركية، من خلال استخدامها عدة استراتيجيات سياسية، لتحقيق مكاسب لنفسها:
أولاً: استراتيجية إساءة وجه أمريكا والتحالف الغربي
استخدمت تركيا هذه الاستراتيجية منذ اليوم الأول للحرب، من خلال المؤتمرات والبيانات الصحفية والتي بينت من خلالها قصور أمريكا في حماية حلفائها، عبر اهتمامها في تحقيق أهدافها أولاً ومن ثم الآخرين، وكذلك ضعف المجتمع الأوروبي في تقديم الدعم العسكري الفعال لأوكرانيا، وأيضا بيان رفضهم استقبال طائرات البيرقدار التركية ذات التأثير الفعال في الحرب لإدخالها إلى أوكرانيا براً، بالإضافة إلى بيان عجز مجلس الأمن على وقف الحرب على أوكرانيا، ودعوتها إلى إحداث تغيرات في مجلس الأمن والتوازنات الدولية.
ثانياً: استراتيجية لعب دور الوسيط
رغم إعلان الرئيس أردوغان، في المؤتمر الصحافي في 28 فبراير، موقف تركيا الذي دان به الحرب الروسية على أوكرانيا، وأنه مع استقلال ووحدة الأراضي الأوكرانية، وأن تركيا لن تتنازل عن مصالحها وأمنها الوطني، وفي الوقت نفسه لن تغفل التوازنات الإقليمية والدولية، ولن تتخلى عن روسيا ولا أوكرانيا، بل ونفذت تعهدها الذي تم توقيعه قبل الحرب بتوريد طائرات البيرقدار لأوكرانيا، وكذلك تطبيقها لاتفاقية مونترو الدولية المبرمة عام 1936 الخاصة بإغلاق ومنع مرور السفن الحربية خلال الحرب من وإلى البحر الأسود، إلا أنها نجحت في استخدام استراتيجية أداء دور الوسيط، بين روسيا وأوكرانيا أثناء الحرب، لتجنب انعكاس آثارها عليها، لذلك لم تقبل تركيا تبني استراتيجية العقوبات الاقتصادية الغربية، وإغلاق المجال الجوي، وتخفيض العلاقات الدبلوماسية مع روسيا، ووصف المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين موقف تركيا بأنها تحاول تجاوز الأزمة من دون حرق الجسور مع روسيا، ودعم أوكرانيا، وإبقاء الاتصالات مفتوحة مع الغرب، فأصبحت هي النافذة الغربية على روسيا، والوسيط الموثوق من طرفي الحرب، فتم استقبال جولتين من المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا في تركيا، لعدم تفاقم الأوضاع والوصول إلى حل سلمي.
ثالثاً: استراتيجية إضعاف الخصم الاستراتيجي لتركيا
إضعاف روسيا من خلال دعم أوكرانيا بأفضل الطائرات الدفاعية "البيرقدار" التي كانت من أكثر الوسائل العسكرية التي أحدثت تأثيرًا كبيرًا في الجيش الروسي خلال الحرب، مع حرصها على عدم الدخول طرف في الحرب الدائرة، وكذلك السماح لروسيا في استخدام مجالها الجوي لنقل قوات النظام السوري والتي تقدر بـ 50 ألف جندي، بهدف استهلاكهم في الحرب، لتخفيف الضغط على جبهة الحدود التركية السورية.
رابعاً: استراتيجية كسب ثقة حلفاء جدد
في كل حرب يخوضها السلاح التركي ضد السلاح الروسي، ويحقق انتصار عليه، تحرص تركيا على كسب ثقة حلفاء وأصدقاء جدد، كما يحدث الآن في ساحة أوروبا الشرقية، فمن المعروف أن دول أوروبا الشرقية معظمها تمتلك السلاح والتكنولوجية السوفييتية التي تمتلك روسيا إمكانية التأثير عليه، فالعديد من هذه الدول مثل رومانيا وبولونيا وغيرها تقدمت لعقد صفقات لشراء السلاح التركي خوفاً من روسيا، بالإضافة إلى دول أخرى لعدم ثقتها بالحليف الأمريكي تقدمت لعقد شراكات لتطوير أسلحتها مثل مصر لتطوير صناعة صواريخ هيسار بلس متوسط المدى، والسعودية لتطوير طائراتF15 بمنظومة أسليسيان 5 للحرب الإلكترونية وكذلك الشراكة الإماراتية في تطوير الدفاعات الجوية.
خامساً: استراتيجية تغير التوازنات الدولية
- استفادت تركيا من انشغال روسيا بحرب أوكرانيا، ومن تداعيات العقوبات الاقتصادية والضغط الغربي المتزايد عليها، ما نتج عنه تأثر مستوى حضور روسيا في الملفات الدولية، مثل السوري والليبي والأذري، مما دفع تركيا وأذربيجان إلى التحرك العسكري للسيطرة الكاملة على إقليم قرة باغ كأمر واقع، وطرد قوات حفظ السلام الروسية منها.
- وكذلك إدخال حاملة الطائرات التركية أناضولو إلى البحر الأسود مزودة بطائرات البيرقدار TB3البحرية، بهدف تطبيق اتفاقية منترو الدولية الخاصة بالبحر الأسود، بالإضافة إلى الأهمية المتزايدة للبحر الأسود في الاستراتيجية التركية بعد اكتشاف احتياطيات ضخمة من الغاز تبلغ 540 مليار متر مكعب.
- وأيضا إجراء تجربة ناجحة لصواريخ "الما فوق صوتية والفرط صوتية" ذات النسخة البحرية ووضعها على الفرقاطة البحرية "إسطنبول" وإدخالها للبحر الأسود، لإحداث التوازن العسكري داخل البحر الأسود بعد سيطرة روسية على ساحل بحر أزوف وكذلك ساحل البحر الأسود من أوكرانيا.
سادساً: استراتيجية إظهار التفوق العسكري النوعي التركي
- إظهار التفوق العسكري للطائرات التركية البيرقدار TB2 البرية والبيرقدار TB3 البحرية، ومدى دقة إصابتها ليلاً ونهاراً، وإمكانية تحليقها لمدة 30 ساعة متواصلة في أرض العمليات، مع إمكانية توجيه صواريخها عبر الليزر، بالإضافة إلى مدى تفوقها في الحرب الإلكترونية وتجاوز الرادارات المعادية بل وتدميرها، مما شكل حالة ردع كبيرة لخصومها وأعدائها ومنافسيها.
- الإعلان عن إدخال الصواريخ "الما فوق صوتية والفرط صوتية" للخدمة داخل الجيش التركي، مما شكل صدمة لأمريكا لسرعة الصناعات الدفاعية والصاروخية التركية، وكذلك صدمة لروسيا من الصناعات الصاروخية التركية ووجودها بالقرب منها في البحر الأسود.
وهدفت من استخدام تلك الاستراتيجيات مجتمعة هو تحقيق مجموعة من المكاسب نقسمها على النحو التالي:
- المكاسب السياسية
- التأكيد على أن الخطر الحقيقي على أوروبا الأطماع الروسية وليس تركيا.
- استثمار الحرب من أجل زعزعة الثقة وتشتيت التحالف بين أمريكا ودول أوروبا ضد تركيا، خاصة بعد التراجعات الكبيرة للولايات الأمريكية لحماية دول أوروبا.
- إثبات تركيا نفسها بأنها دولة قوية وتمتلك أسلحة مؤثرة في الحروب خاصة ضد السلاح الروسي.
- إثبات تركيا نفسها بأنها شريك وحليف يمتاز بالثقة والصدق وجعل هناك حاجة ماسة للتحالف معها.
- إعادة التوازن العسكري لتركيا داخل البحر الأسود مقابل روسيا.
- أصبحت تركيا قادرة على رسم سياسات مستقلة دولياً، فضلاً عن التدخل في الملفات المهمة إقليميًّا.
- المكاسب العسكرية
- استثمار أردوغان الحرب الدائرة برفع العقوبات الأمريكية على الصناعات الدفاعية التركية، حيث طالب خلال اتصال هاتفي مع نظيره الأمريكي بايدن برفع العقوبات العسكرية عن تركيا، فتم توريد 40 طائرة F16 لتركيا بالإضافة إلى الاتفاق على تحديث 80 طائرة F16 أخرى.
- طالب رئيس الوزراء البريطاني الدول الغربية برفع الحظر عن إمداد تركيا بتكنولوجيا صناعة البيرقدار بجميع، شكالها) محركات، رادارات، تكنولوجيا التصوير) وغيرها.
- قالت صحيفة ديلي نيوز الأمريكية، إن مدير اتصالات الرئاسة التركية فخر الدين أكد أن أمريكا تعيد دراسة تزويد تركيا بطائرات F35 الشبحية، وتسليم أنظمة الدفاع الجوي باتريوت بدون شروط لتركيا.
- رفع الحظر فيما يتعلق بتكنولوجيا صناعة المحركات النفاثة لطائراتها الوطنية من الجيل الخامس T F X من قبل الشركة المصنعة رويس روس.
- المكاسب الاقتصادية
- زيادة الضخ المالي والاستثمار من قبل رجال الأعمال الروس والأوكرانيين في تركيا جراء الحرب الدائرة بينهم، وتجنباً للعقوبات الغربية الروسية المتبادلة.
- الشركات الأوروبية التي أغلقت عملها داخل روسيا بسبب العقوبات، تحول استثمارها إلى تركيا حتى تتمكن من تصدير منتجاتها للسوق الروسي عبر الإنتاج في تركيا أو من خلال تركيا.
- نجاح تركيا بالاتفاق على مرور إمدادات الغاز الإيراني والعراقي من خلالها إلى أوروبا وما لها من مزايا اقتصادية لتركيا.
- أصبح السوق الروسي غالبا للمنتج التركي، بسبب العقوبات المتبادلة بين روسيا والغرب عموماً.
- التوافق بين تركيا وروسيا على استيراد الغاز الروسي بعملة الروبل بسعر أقل، بعد وقف تصديره إلى الدول الأوروبية وأمريكا.
- الدول الأوروبية التي كانت مع اليونان في عدم ترسيم الحدود البحرية مع تركيا، الآن هي من تضغط على اليونان للموافقة على ترسيم الحدود البحرية بينها وبين تركيا، لتسريع استخراج الغاز التركي بدل الروسي.
- تحقيق عائدات اقتصادية كبيرة عبر تصدير الأسلحة، وهو ما بدأت تظهر آثاره في ارتفاع صادرات الأسلحة التركية من 248 مليون دولار في عام 2002، إلى قرابة 3 مليارات دولار في عام 2019، كما تأمل أنقرة تحقيق صادرات بقيمة 10.2 مليارات دولار، في عام 2023.
وفي النهاية نستنتج أن تركيا لا تريد أن تكون متسرعة في قرارها، بل تسعى لأن تكون خطواتها ثابتة، وتعمل على إثبات نفسها بأنها ذات ثقل إقليمي، وأن روسيا والغرب بحاجة إليها إذا ما طال أمد الحرب، بل يسعى أردوغان بأن يصبح أحد اللاعبين الرئيسيين في الحرب الأوكرانية، بحيث تكون أي إعادة تشكيل في منطقة البحر الأسود بدون تركيا غير محتملة؛ إن لم تكن مستحيلة.