ممّا هو ثابتٌ في النواميس الإلهية الشرعية أنّ من أتْعب القدَم عانق القمَم، وأنّ من تخلّق بصفات الأنبياء وقاربَها حاز الكثير من بركات الامتنان عليهم بدرجة النبوّة لهم؛ ذلك أنهم قناديلُ البشرية في سماء الظلمة والنسيان والتناسي، وقادةُ الخلق إذا زلّوا أو اعتلّوا أو انحرفوا عن السبيل وضلّت بهم السبل، واجتالتهم الشياطين ونازعتهم نفوسُهم الأمّارة بالسوء والكسل والتسويف والتأخير عن الاستجابة والإذعان لأمر الله ومراده سبحانه.
ومن مظاهر ذلك ما جاءت به الآية الكريمة التي تحدثنا عن سببٍ مهمٍّ ومحوريٍّ لثبات الأنبياء عليهم السلام وصبرهم على ما ينالهم من أقوامهم على مستوى أنفسهم وأعراضهم وأجسادهم بل وأرواحهم أحيانًا، وهو تعلّقهم المستمرّ بالله موعدًا والآخرةِ ذكرًى.
والتخليصُ الإلهيُّ للعبد درجةٌ ينالها بتقواه حظوةً من خالقه ومولاه؛ ليتخلص من علائق الدنيا، وتحضره الذِّكرى أو التذكّر باستمرارٍ لـ(الدار) التي هي الدار الحقيقية؛ بأل العهد؛ فهي المعهودة التي يتعاهدها بالزرع لها في المحطة الواجبة في الدنيا، وهي المعروفة التي كلُّ ما هو في الدار السابقة لها غرسٌ لها وإعدادٌ لدرجاتها وانتظارٌ بأشواقٍ لفردوسها.
قال مجاهد " بذكر الآخرة؛ فليس لهم هَمٌّ غيرها" وقال الطبري "هي ذكرى الدار الآخرة، فعملوا لها، فأطاعوا الله وراقبوه" وأما قتادة فأضاف معنى لازما له وهو "الدعوة الى الدار الآخرة". والحق أن من اهتم بأمر دعا غيره اليه، فهو لازم للمعنى الأول.
والتخليصُ بركةٌ من الله لوصول المصطفيْن بأمره وفضله إلى الخلاص من الانشغال بالدنيا لا تركِها؛ فهم مؤهّلون للاستثمار الحسنِ فيها من غيرِ أن ينسوا نصيبَهم فيها لكنّ الأوّليّةَ والأولويةَ عندهم للآخرة، والقياسَ عندهم بمعاييرها، والتعاملَ هنا بمقاييسها هناك؛ ألم ترَ أنّ ربَّك سبحانه قال "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا"؛ فلا يمكنُ أن يُتصوَّر أنّ امرأً تحضرُه الآخرةُ قبل كلامه إلا ويكونُ حسنًا في مراضي الله، وقبل عملِه إلا ويكونُ صالحًا وَفق شرع الله.
ولذا كان الأنبياء من المخلَصين؛ ألا ترى أن نبيّ الله يوسف عليه السلام -مثالًا تقريبيًّا- لم تستطع المعصية أن تجد لها طريقًا إليه لما عاين بمواهب التخليص اللدنيّة ما جعل الآخرة تنتصب دون الحرام حاجزًا يذكّره أنّ المتعة الحرام لحظيةٌ زائلة، وأنّ أشواكها وأدرانها لا تزال بصاحبها إن لم يبادرها بمتابٍ واستغفار حتى تأكلَه ولا تبقي منه ولا تذر.
إنّ آية يوسفَ السورة تبيّن لنا أنّ وصوله لمقام التخليص بمنّ الله جعل العصمة له من هذه المزالق والشبهات تلقائيًّا؛ كأنّها تقول لنا أن تجديد يوسفَ الفكرة ممكنٌ ما سار المرء على الدرب وهذّب القلب وأدام لله الحبّ.
لكن لا يظنَّ امرؤٌ أنّ هذه الطريق سهلة الوصول ما لم يكدَّ ويجدّ، ويتعب وينصب، ويتذلّل لله سبحانه، ويدعو دعاءَ مضطرّ، ويقدم بين يدي ذلك صدقات وخدمات، وكلمة السرّ فيها "الإرادة" لو أنّ الأعمال عنده كانت ذاتَ نيّات صادقات دائمةَ الارتباط بالله سبحانه.
ينبغي لك إن أردت القرب من هؤلاء القوم وإن رغبت في الاصطفاء، ورجوت أن تكون ممن يصنع الله تعالى بهم التغيير، وأن تكون من مصابيح الهدى؛ أن تكون الآخرة هي الشعور الذي لا يفارِق، هي الدافع للعمل والمرجوة من ورائه والحاجز عن الحدود. الانشغال بها تذكرا وتفكرا، والترتيب الدائم لها، والتقديم الكثير من أجلها.