مشهد مقزّز للغاية ذلك الذي قدّمه لنا وزراء خارجية أربع دول عربية برفقة زميليهم الإسرائيلي والأمريكي وهم يتكاتفون الأيدي ليمسك كل واحد منهم يد جاره، وكأنهم أرادوا أن يصوّروا لنا قوة العروة التي قامت بينهم في صورة بانوا فيها كأنهم يرقصون الدبكة مع بعض الطرافة وذلك على مقربة من قبر ديفيد بن غوريون، زعيم العصابات الصهيونية التي استولت على أرض فلسطين قبل ما يناهز ثلاثة أرباع قرن من الزمن، الأمر الذي لم يثنِهم عن تقديم تحيتهم له.
بيد أن الأخطر في هذا المشهد المقرف ليس إفصاحه الصريح عن تواطؤ قديم جداً بين الأنظمة العربية الأكثر رجعية والدولة الصهيونية، وهو تواطؤ رعته الولايات المتحدة الأمريكية طوال مرحلة الحرب الباردة، ومرادفها العربي في زمن التخاصم بين المحور القومي بقيادة مصر الناصرية والمحور الرجعي بقيادة المملكة السعودية. ليس ذلك الإفصاح أخطر ما في المشهد المذكور، بل كونه مشهداً لم يعد يحيل إلى انقسام بين الأنظمة العربية مثلما كان في الماضي، بل إلى توافق معظمها. ذلك أن مشهداً مقززاً آخر سبقه، هو مشهد لقاء الجزّار بشّار الأسد بمحمد بن زايد، متولّي حكم الإمارات العربية المتحدة ورائد «التطبيع» مع الدولة الصهيونية، بينما لا يُخفى على أحد تودّد القاهرة لدمشق.
فنحن إذاً إزاء حلف رجعي عربي عريض بات يمتد «من المحيط إلى الخليج»، وفق تعبير كان محبّذاً في زمن المدّ القومي، أي من المملكة المغربية إلى الإمارات، مروراً بمصر عبد الفتّاح السيسي وسودان عبد الفتّاح البرهان وسوريا بشّار الأسد. ولا تحسبنّ كل من تخلّفوا عن المشاركة في الرقصة معارضين لها، بل مؤيدون بمعظمهم، لم يلتحقوا بها خشية من وقع ذلك على شعوبهم وينتظرون فرصة سانحة كي ينضموا بدورهم إلى فريق الدبكة.
لكن ماذا يجمع هذه الأنظمة على اختلاف أشكالها، يا تُرى؟ ليس العداء لإيران كما يحلو للإعلام الصهيوني تصويره، إذ إن الهاجس الإيراني هاجس إسرائيلي بالدرجة الأولى، لا تشاركه الرباط ولا القاهرة ولا حتى الإمارات، التي تربطها بإيران وشائج اقتصادية وسكانية عديدة، ناهيكم بالطبع من ساكن «قصر الشعب» في جبل المزة الدمشقي الذي يدين لإيران ببقائه في قصره. ولا حتى الولايات المتحدة التي لم يخفِ وزير خارجيتها خلافه مع حليفه الإسرائيلي حول الاتفاق النووي الذي تسعى إدارته وراء إحيائه مع طهران.
كما لا يجمع الحلف الرجعي الجديد عداءٌ مشترك لروسيا على غرار العداء للاتحاد السوفييتي الذي جمع الحلف الرجعي الإقليمي في زمن «الحرب الباردة العربية»، بل يتميّز معظم أركانه، لاسيما الحكومة الصهيونية وأبو ظبي والرياض والقاهرة، برفضهم الانسياق وراء الدعوة الغربية إلى عزل روسيا عقاباً على اجتياحها لأوكرانيا. فكلّهم تربطهم بموسكو الحالية أواصر صداقة متينة، مصحوبة بإعجاب بفلاديمير بوتين الذي أصبح بطل اليمين الأقصى العالمي مثلما كان فلاديمير لينين بطل اليسار الأقصى قبل قرن. وبالطبع فإن ساكن «قصر الشعب» مدينٌ في بقائه لبوتين أكثر بعد من دينه لطهران.
ما هو إذاً ذلك الذي يجمع هذا الحلف العريض، متخطّياً شتى الفروقات والتباينات القائمة بين أركانه؟ إنه بكل بساطة العداء لذلك اللاعب الجديد الذي نزل إلى الحلبة العربية قبل أكثر من أحد عشر عاماً، ألا وهو الشعب، الشعب الذي أراد الحياة ذات يوم، بدءاً من تونس في أواخر عام 2010، ولا زال ينتظر أن يستجيب القدر وينجلي الليل وينكسر القيد. ها هو ذا العدو المشترك الذي يجتمع ضده كافة أركان الحلف الرجعي الإقليمي: إنهم مجمعون على الحؤول دون تمكّن الشعب من فرض إرادته الديمقراطية.
فإن عدوّ المملكة المغربية الرئيسي ليس النظام الجزائري، بل الحراك الشعبي المغربي، مثلما أن العدوّ الرئيسي للحكم العسكري الجزائري ليس الجار المغربي، بل الحراك الشعبي الجزائري. وعن عبد الفتّاح السيسي وائد «ثورة 25 يناير» المصرية، فحدّث ولا حرج، وحدّث كذلك، وكم بالأحرى، عن بشّار الأسد وأد الثورة السورية وقاتل مئات الآلاف من أفراد شعب بلده الشهيد.
أما أبو ظبي، فقد نصّب نفسه متولّي عهدها في مركز رأس الحربة الرجعية في مجلس التعاون الخليجي، متدخّلاً إلى جانب القوى المضادة للثورة في مصر وليبيا والسودان، ناهيكم من فلسطين ذاتها، فضلاً عن إسراعه في وقف مسرحية عدائه المزعوم لآل الأسد الذين احتضنهم، ولم يتظاهر بمعارضتهم سوى تحت ضغط إقليمي طائفي لا غير، ضغط انتهت صلاحيته الآن. أما عن الولايات المتحدة وربيبها الصهيوني المدلّل، فلم ينفكّا يوماً عن دورهما في حراسة النظام الرجعي العربي، وقد انضمّت إليهما في هذا الدور، بل فاقتهما، روسيا البوتينية، حليفة المحور العربي المضاد للثورة في شتى الساحات المذكورة أعلاه.
أيها السادة الراقصون فوق قبر ديفيد بن غوريون ومن لفّ لفّكم ولم يحضر، نعِدكم بأن يوم آخرتكم سوف يأتي لا مُحال، عندما يواصل الشعب معركته من أجل الحياة، تلك المعركة التي خاضت فيها شعوب منطقتنا موجتين حتى الآن في عامي 2011 و2019 والتي يواصل شعب السودان البطل رفع شعلتها بانتظار موجة ثورية إقليمية جديدة تستعيد الهجوم على أسوار النظام الرجعي الإقليمي.
إنها أشبه بموجات متتالية من جيش شعبي كثيف الأعداد، لكنّه فقير الوسائل الحربية، يشنّ هجوماً بعد آخر على قلعة محصّنة وهو ملء الثقة بأنه سوف ينتصر في نهاية المطاف، مهما طال أمد المعركة ومهما تكبّد من خسائر، إذ إنه متفوق عدداً بكثير ومدرك أنه يكافح مع مجرى التاريخ وانتصاراً للحرية، بينما يكافح أخصامه عكس تيّار التحرّر الجارف الذي تغلّب على أكبر العقبات طوال تاريخ البشرية.