لم تُبصر العلاقات التركية الإسرائيلية النور خلال الحكم الأردوغاني لتركيا، بل هي ممتدة منذ 73 سنة، حيث شهد عام 1949 ولادة هذه العلاقة عبر اعتراف تركيا بدولة الاحتلال التي استقبلت في يناير من العام التالي للاعتراف أول بعثة دبلوماسية تركية (1950)، كما أن توتر العلاقة بين الحكومتين لم يكن أيضًا وليد الحكم الأردوغاني لتركيا.
كل ما طوته هذه العلاقة من عقود لم تخلُ من التقلبات المتأثرة بالأبعاد التاريخية والسلوك العدواني لدولة الاحتلال على الدول العربية عمومًا وفلسطين خصوصًا، فالفتور، والتوتر، والقطيعة لم يكونوا يومًا في حالة حياد أو استبعاد عن تلك العلاقة التي أنفقت الكثير من الوقت في عملية ترميم نفسها وإصلاح ما أفسدته كل أزمة مستجدة دفعت بها إلى الوراء.
غير أن هذه العلاقة شهدت انتعاشة كبيرة خلال تسعينيات القرن الماضي، فقد استفادت كثيرًا من المناخ السياسي الذي تشكل بعد إحياء عملية التسوية عام 1991، ذلك العام الذي شهد عقد مؤتمر مدريد للسلام المساهم في رصف الطريق إلى أوسلو، أوسلو الشاهدة عام 1993 على توقيع اتفاق التطبيع بين منظمة التحرير ودولة الاحتلال، هذا الاتفاق الذي وجدت فيه عواصم مختلفة مبررا لنسج علاقة مع الاحتلال، والذي فلح بدوره في إقامة جسور اجتياز موانع الاستفادة الأُحادية من تلك العلاقة.
شكل اتفاق أوسلو محطة مهمة في تاريخ التقارب التركي الإسرائيلي الذي عاش في معيته فترة ذهبية منع مضيه قدما اقتحام أرئيل شارون للمسجد الأقصى سبتمبر عام 2000، ذلك الاقتحام الذي أصاب التقارب بانتكاسة لأعوامٍ خمسة، ثم جاءت زيارة رجب طيب أردوغان نفسه لتل أبيب عام 2005 ليسدل الستار على ذلك التوتر، وقد كان حينها رئيس وزراء تركيا، فتحسنت العلاقة في بداية عهده.
لكنها تدهورت بسرعة بعد عدوان الاحتلال على قطاع غزة أواخر 2008، وقد رأينا بعض مظاهر هذا التوتر خلال مؤتمر دافوس الاقتصادي يناير 2009، حيث هاجم أردوغان شمعون بيريس رئيس دولة الاحتلال، ولذات السبب، وفي ذات العام (2009)، رفضت تركيا مشاركة قوات إسرائيلية في مناورة عسكرية لحلف الناتو، كما أن الدراما التركية لم تكن غائبة عن ميدان تغذية هذا التوتر، فأنتجت مسلسلات رأت فيها دولة الاحتلال منصات تحريض عليها، وأدوات لنشر العداوة ضدها لكن ما قسم ظهر العلاقة التركية الإسرائيلية، ارتكاب جنود الاحتلال في مايو 2010 جريمة قتل عشرة أتراك بعد اقتحام الجنود سفينة مرمرة القادمة لدعم الشعب الفلسطيني.
والحقيقة التي لا يمكن القفز عنها أن الحروب على قطاع غزة واستمرار الجرائم الإسرائيلية بحق شعبنا الفلسطيني كانت سببا في إطالة عمر التوتر الأخير بين الحكومتين حتى تجاوز 12 عامًا، وهم عمر غير مسبوق في تاريخ توتر العلاقات التركية الإسرائيلية، محطة توتر طويلة الأجل زادت خلالها جرعة الانحياز التركي لفلسطين، لكن هذا الانحياز لم يخرج طيلة الاثني عشر عامًا عن الخط السياسي المقبول دوليًا، ثم جاءت زيارة هرتسوغ رئيس دولة الاحتلال في 9 مارس الجاري لتعلن انتهاء جولة التوتر.
لا شك أن الزيارة وشتى أشكال التطبيع مع دولة الاحتلال خسارة مؤلمة لفلسطين، كونها تنتج ما يضعفنا ويعطي شرعية وقوة لهذا الاحتلال، والحديث عن أن إحياء التطبيع ذو أهمية اقتصادية لتركيا يعزز فكرة أن المصالح يُقدمها أصحابها على فلسطين، إن منعت نفعا دنيويا، أو جلبت ضررا.
بروز النسخة المستحدثة من التطبيع التركي لا يمنع الوقوف عند حقيقة أن إقدام تركيا على هكذا خطوة تتحمل بعض وزرها أنظمة عربية وازنة سياسيًا واقتصاديًا، فضلت إشهار سيف العداء لتركيا وسعت جاهدة لإضعافها سياسيًا واقتصاديا كونها سلكت طريقًا مغايرًا لطريقها المتماهي مع الاحتلال، وأوقعتها كثيرًا أمام شعوبها في حرج.
كما أن هذا التطبيع يعبر عن فشل رئيس السلطة محمود عباس وفريقه في استثمار توتر العلاقات التركية الإسرائيلية لصالح قضيتنا، بالعمل على تعزيزها والاستفادة من قوة تركيا في تشكيل جبهة عربية وإسلامية رسمية قوية تناهض التطبيع وتمنع اتساع رقعته، ولا شك أن تنديد ورفض فصائل المقاومة زيارة هرتسوغ رئيس دولة الاحتلال يؤكد فكرة أن الفصائل لا تتعامل بانتقائية مع التطبيع فهو في عرفها خيانة لا تنتفي عن المتورط فيها إن كان حليفًا أو مستضيفا، بل تدعو الجميع إلى نبذ التطبيع ورفضه، فهم يجيدون التفريق بين تشجيعهم لأردوغان في مسيرة النهوض بالبلد الإسلامي تركيا، وبين استنكارهم الشديد للتطبيع مع دولة الاحتلال .
مخاوف كثيرة تندلع الآن في دواخلنا بعد تحسن علاقة تركيا بدولة الاحتلال، وتندلع في دواخل كل من اعتبروا أردوغان رئيسا استثنائيا يصلح بمواقفه المستنكرة لسياسات دولة الاحتلال لقيادة الأمة الإسلامية في مواجهة التطبيع، مخاوف أضحت منبتًا لتساؤلات مهمة، ولعل أبرزها، هل سيحقق أردوغان أهدافه من التطبيع دون وقوعه في مستنقع العداء لشعبنا ومقاومته؟ وهل ستختلف مواقف تركيا وردود فعلها على أي عدوان إسرائيلي قادم على شعبنا ومقدساته؟ وهل سيكون التقارب التركي الإسرائيلي على حساب التقارب مع حركة حماس الحاضرة في تركيا قيادةً وقواعد؟
هذه التساؤلات لا يجيب عنها بصدق سوى قادم المواقف التركية، فهي وحدها القادرة على إعطاء الإجابة.