التقطت أول صورة للنظام السياسي للسلطة الفلسطينية عام 2003م، عندما عين الرئيس الراحل ياسر عرفات أبو عمار محمود عباس رئيسا للوزراء في 19 مارس 2003، وذهب عدد كبير من المؤرخين والباحثين والمحللين السياسيين وقتئذٍ إلى أن منصب نائب الرئيس اختراع أمريكي (إسرائيلي) فُصّل لمحمود عباس بديلًا عن عرفات الذي رفض توقيع اتفاقية كامب ديفيد الثانية في واشنطن، وقد ثبت ذلك واقعا عندما فُرِض الحصار على أبو عمار داخل مقره بالمقاطعة في رام الله بالضفة المحتلة.
الصورة الثانية في 9 كانون الثاني/ يناير من عام 2005م عندما انتخب محمود عباس رئيسا للسلطة وللشعب الفلسطيني، وفي أولى إطلالاته طالب عباس قادة أجهزته الأمنية بملاحقة كل أشكال المقاومة المسلحة ومطلقي الصواريخ ضد الاحتلال الصهيوني، وأعطى أوامره بإطلاق النار المباشر على من يقوم بهذا الفعل المقاوم.
صورة أخرى لعباس كانت في عام 2006م، عندما فازت حركة حماس بأغلبية في الانتخابات التشريعية، وأبدى عدم رغبته في التعاون معها، واستخدمت جماهير حركة فتح داخل السلطة في عرقلة المسار الديمقراطي في وجه حماس وحكومتها المُشكَّلة، وافتعلت المشكلات السياسية والأزمات الاقتصادية في محاولة لإسقاط حماس سياسيا عبر دفعها إلى التراجع عن الاستمرار في العمل الحكومي، وعندما لم ينجح ذلك التقدير، تم تفعيل خاصية الفلتان الأمني ضد الحكومة التي شكلتها حماس، فضلا عن عدم استجابة موظفي القطاع العام المحسوبين على فتح لتعليمات أو نداءات الوزراء المعينين من التشريعي وأوصل الحالة الفلسطينية إلى صدام مؤسف عام 2007م، أحدث انقساما خطرًا هدد مستقبل القضية الفلسطينية.
في عام 2007م، أعلن محمود عباس ودون العودة للمجلس التشريعي الفلسطيني، إقالة حكومة الوحدة العاشرة برئاسة إسماعيل هنية وحل التشريعي، وهو لا يملك نصا في القانون بحله، حيث لا يلغى المجلس الحالي إلا بانتخاب غيره.
توالت القرارات القاسية بحق غزة وسكانها من رئيس السلطة محمود عباس، مع أن تلك القرارات تتعارض مع القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وتجرمه، بل وتصل إلى إدانة مصدريها، ومن أهم تلك القرارات: قطع رواتب آلاف الموظفين العاملين في القطاع الحكومي في الضفة وغزة، وقطع موازنات لقطاعي الصحة والتعليم، بل وبلغ الأمر أن يطلب من الأطباء والمعلمين الجلوس في البيوت، ومنع إصدار جوزات السفر، والتسبب بإغلاق معبر رفح، المنفذ الوحيد لقطاع غزة.
لم تتوقف الصور عند هذا الحد، بل زادة عند أول عدوان صهيوني إرهابي استهدف المدنيين العزل في غزة في 27 كانون الأول/ سبتمبر عام 2008م، وارتقى خلالها أكثر من 1200 شهيد من النساء والأطفال والشيوخ والشباب، ولم يحرك ساكنا، واعتذر عن دعوة وجهتها له قطر لحضور قمة الدوحة لبحث العدوان على غزة، وقال تصريحه المعروف: سأذبح من الوريد للوريد.
في عام 2014 تنازلت حماس عن حكومة الوحدة لإعطاء الفرصة لتحقيق الوفاق وشكلت حكومة رامي الحمدلله، فتنصلت من مسؤولياتها تجاه غزة، وازدادت عمليات قطع الرواتب والتهرب من مواجهة العدوان على غزة في معركة العصف المأكول، ومع قدوم عام 2017 فرضت عقوبات اقتصادية وإدارية قاسية على غزة كان في طليعتها وقف التحويلات الطبية لمرضى السرطان، ووقف الموازنات التشغيلية للصحة وفرض ضريبة البلو على الوقود وغيرها.
وصورة أخرى لعباس في عام 2020م، عندما أصدر مراسيم الانتخابات العامة سارع إلى إلغائها تحت حجج واهية لم تنطلِ على شعبنا وفصائله والقوائم المرشحة.
اتسمت فترة محمود عباس طيلة الـ 17 عاما بـ:
- ملاحقة المقاومة وتضييق الخناق عليها ومنع تصعيدها وضمان أمن الاحتلال.
- منع أي محاولة وفاق وطني مع الفصائل الفلسطينية والوحدة على خيار المقاومة.
- قطع الطريق على كل محاولات إدانة الاحتلال في المؤسسات الدولية، وحصل ذلك عندما تراجعت السلطة في دعم تقرير غولدستون الذي أدان العدوان على غزة عام 2008م.
- التهرب من استحقاق الانتخابات الشاملة التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني، وعدم القبول بالإجماع الوطني الداعي لإعادة بناء منظمة التحرير.
- زيادة حالات الانقسام في صفوف حركة فتح، وقد أصبحت فتح أكثر من تنظيم يحاول التفرد بنفوذ الحركة المهيمن على أدوات السلطة الفاعلة، التي تحرم حتى الشعب الفلسطيني إعادةَ ترتيب بيته.
- تقوية التنسيق الأمني مع الاحتلال حتى بات في نظر عباس مقدسا، وتعنيف العمل المقاوم حتى أصبح يرى في عينه أنه إرهاب.
وأمام هذه الصور الأليمة لأدوار رئيس السلطة محمود عباس تجاه الشعب الفلسطيني، كيف لا يطالب الشارع بانتخابات شاملة لا تُستثنى منها الرئاسة، ولا يعرض في سياقها الانتخابات المحلية منفردة وحيدة يتيمة؟ كما أن تلك الحالة تفرض على الكل الفلسطيني الوقوف أمام مسؤولياته للحفاظ على حقوقه الوطنية والسياسية التي يكفلها له القانون، إضافة إلى واقع الحال بأننا نعيش في وطن يجثم على ترابه احتلال مجرم، ويمكن تلخيص أهم الأدوار للشارع الفلسطيني وفصائله:
- ضرورة فرض واقع الانتخابات الشاملة على السلطة ورئيسها ضمن الفعاليات الشعبية والمطالبات المجتمعية لها.
- الاهتمام بزيادة حالة الإجماع والوفاق الوطني وتوسيع دائرة التماسك المجتمعي في غزة والضفة والقدس والداخل المحتل والشتات لتشكيل التحام شعبي ضاغط لفرض عملية بناء مؤسسات الشعب الفلسطيني السياسية الرسمية مثل منظمة التحرير على أسس وطنية بعيدا عن المحاصصة والتفرد الحاصل لها اليوم.
- على المقاومة الشعبية والمسلحة في الضفة والقدس بِعَدِّهما ساحات المواجهة الحقيقية في وجه الاحتلال الاشتداد ورفع الثمن الذي سيدفعه الاحتلال وبرنامج التنسيق الأمني.
الخلاصة: إذا أراد شعبنا حرية نظامه السياسي وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير، فعليه أن ينطلق لتحرير السلطة من أغلالها الأمنية والسياسية والاقتصادية المتصلة بالاحتلال والمرتبطة بوجوده واستقراره.