تنظم جماعات استيطانية من المتدينين الصهاينة من كل عام مسيرة الأعلام والتي تتبع طقوسًا محددة، واحتشد الآلاف من المستوطنين الذين بدأوا في اقتحام المسجد الأقصى صباح يوم 29 أيار (مايو) الشهر الماضي على شكل أفواج ضم كل واحد منها العشرات، وتصدى لهم المرابطون الفلسطينيون في المسجد الأقصى من الرجال والنساء معظمهم من كبار السن، ولسنا بصدد الحديث عن حيثيات المسيرة شكلًا وبرنامجًا، ولكن نسلط الضوء على مضمون الفكرة واستغلالها من المستوى السياسي الرسمي في الكيان الصهيوني بهدف تحقيق مكاسب سياسية في ضوء متغيرات عدة حصلت في العام والنصف الأخيرين أثر في صورة قوة الردع لدى القرار والأداة الفاعلة في المؤسستين السياسية (الحكومة) والعسكرية (الجيش).
بدأت قصة مسيرة الأعلام عام 1968م، على يد الحاخام يهودا حزاني من المدرسة الدينية المعروفة باسم ميركاز هراف-مركز الحاخام وتحولت إلى تقليد سنوي، بعد احتلال قوات الاحتلال في حرب حزيران عام 1967 الجزء الشرقي من مدينة القدس، وتنظم فيما يعرف بيوم توحيد القدس وإحلال السيادة عليها، و اقتصرت المسيرة في طليعتها الأولى على أعداد قليلة من مؤيدي الصهيونية الدينية الأرثوذكسية، ثم سرعان ما أخذت تزداد عاما بعد عام حتى بلغ المشاركون زهاء 30 ألف في الأعوام الأخيرة، ورغم أن هذا التقليد اليهودي للمسيرة ليس نصا في التوراة أو طقوسا تلمودية دينية في جذورها، وإنما كانت فكرة فرضت بحكم الأمر الواقع بعد احتلال كامل لمدينة القدس، ولكن من اقترح الفكرة وطبقها ميدانيا أوجد لها مسارا دينيا، بمعنى ألبسها ثوب الدين، وبدأت الجماعات اليهودية الدينية تشارك في المسيرة وتؤدي طقوسا دينية مثل الصلاة على أبواب الأقصى و الأغاني التوراتية و مظاهر أخرى، ولم تحظى المسيرة التي انطلقت طيلة 54 عاما باهتمام بالغ من الحكومات الصهيونية المتعاقبة، حتى العامين الأخيرين واللذين شهدا تطورات جديدة.
شهد حي الشيخ جراح نيسان (أبريل) عام 2021م، تطورات خطيرة حيث سمحت حكومة بنيامين نتنياهو لمجموعات من المستوطنين الاستيلاء على منازل مقدسيين من الحي وطرد سكانها بفعل القوة، مما أثار حفيظة الفلسطينيين وهب المواطنون يدافعون عن الحي وسكانه، تزامن ذلك مع توترات داخل المسجد الأقصى وإعلان الجماعات الدينية اليهودية لما يُعرف بأمناء جبل الهيكل، تنظيم مسيرة الأعلام في القدس 11 أيار (مايو) 2021م، ودعا المنظمون للمسيرة للمرور من باب العامود ثم الدخول للمسجد الأقصى وأداء صلوات في باحاته، وكانت تلك شرارة معركة دفاع فلسطيني جديدة فانطلقت ما عرف فلسطينيا بسيف القدس، و استطاعت المقاومة أن تجبر منظمو المسيرة من تغيير مسارها، واضطرت شرطة الاحتلال في القدس إلى تفريق المشاركين وإنهاء الفعالية بأسرع وقت ممكن، وشن جيش الاحتلال العام الماضي عدوانا واسعا على غزة ردا على إطلاق كتائب القسام عددا من الصواريخ طويلة المدى نحو مستوطنات القدس، وفرض متغير جديد نفسه على صانع القرار في الكيان حيث عزمت الفصائل الفلسطينية عدم السماح لمسيرة الأعلام من المرور عبر الحي الإسلامي والدخول للأقصى، فيما ظهرت حكومة نتنياهو التي سقطت فيما بعد أمام المستوطنين بالضعيفة، ثم جاءت حكومة الائتلاف الحكومي برئاسة نفتالي بينت، و تراجعت هي الأخرى أمام تحذيرات حماس والفصائل الفلسطينية من المساس بالأقصى أو السماح لجماعات الهيكل من اقتحام الأقصى، وتحققت حالة من التراجع للاقتحامات في شهر رمضان الماضي، و وجدت حكومة نفتالي بنيت نفسها أمام اختبار وجودي وصورتها تهتز أمام الرأي العام للتجمع الاستيطاني الصهيوني وخصوصا منه الأحزاب اليمينة و اليهود المتدينين الذين يؤيدون هذه الحكومة ولكنهم يتهمونها بالضعف أمام حماس واستغل عضو الكنيست اليميني المتطرف ايتمار بن غفير ذلك وبدأ دعاية سلبية ضد الحكومة الحالية، الأمر الذي دفعها لأن تقرر السماح بتنظيم المسيرة رغم توقعات التصعيد غير المحتمل.
تهدف الجماعات المنظمة للاقتحامات اليومية للأقصى ونظيراتها من المنظمين والمشاركين في مسيرة الأعلام إلى تحقيق بسط السيطرة على المسجد والانتقال خطوة هدم قبة الصخرة وبناء ما يسمى بالهيكل مكانه، وتجد جماعات يمينية يهودية متطرفة أن اندلاع حرب وتسبب في قتال عنيف يحقق لها نبوءاتها بقرب وصول المخلص وتحقيق حلم الدولة اليهودية، وهي أفكار مختلقة عن التوراة و نصوص محرفة من حاخامات شاركوا في فكرة اختلاق إسرائيل بينّها كثير من المؤرخين اليهود ليست موضعا للحديث، وفي الجانب الآخر لم تتوقف حكومات اليمين الصهيوني طرح مزيد من بناء الوحدات الاستيطانية، ومنها مشروع القدس الكبرى الذي يربط مستوطنات المدينة المحتلة وأهمها معاليه أدوميم، بمستوطنات الضفة الغربية، ويربط بينها جسر وطريق رئيس ولم يكن آخرها مشروع " كيدم" على بعد المبارك، والذي تشرف عليه جمعية "العاد" الاستيطانية ويبعد عن السور الجنوبي للمسجد الأقصى 100 متر، ويعتبر مشروع "كيدم" من ضمن أضخم وأخطر ثلاثة مشاريع إسرائيلية تهويدية في مدينة القدس، بما فيها "القطار الهوائي، والكنيس اليهودية في ساحة البراق". كما يوضح في هذا السياق الناشط في شؤون القدس فخري أبو دياب. ورغم تباعد الوسائل بين الجماعات الاستيطانية واليمينية الدينية في تنفيذ مخططاتها تجاه الأقصى ومدينة القدس من جانب وحكومات الاحتلال المتعاقبة من جانب آخر إلا أنها تلتقي معا في هدف واحد وهو السيطرة الكاملة على مدينة القدس وطمس الهوية الإسلامية والعربية فيها و فرض السيادة اليهودية عليها كاملة وتلجأ الحكومة الصهيونية الحالية و سابقاتها إلى الإجراءات العقابية ضد سكان القدس عبر منع البناء بذريعة عدم الحصول على تراخيص أو عدم ملكية الأرض وبالاعتداء حينا بهدم منازل المواطنين إما فرديا بإجبار صاحب البناء بهدمه يدويا حتى لا يتكلف خسائر الهدم أو من خلال آليات بلدية القدس و فرض غرامات طائلة على الفلسطيني صاحب المنزل المهدوم بحكم أنه أشغل آليات البلدية لتنفيذ قرار محكمة الاحتلال، وتستغل حكومات اليمين الصهيوني الأفكار الدينية والمعتقدات المشكوك في صحتها المتعلقة بالقدس و أرض الميعاد التي تتخذها مدخلا للهيمنة الصهيونية على مدينة القدس وعزلها عن واقعها العربي والفلسطيني.