فلسطين أون لاين

السلطة قطعت رواتبهم وترفض صرف مستحقات جرحى العدوان

تقرير يوم الجريح الفلسطيني.. نزيفُ مصابي الحروب يتدفق من الذاكرة

...
يوم الجريح الفلسطيني.. نزيفُ مصابي الحروب يتدفق من الذاكرة (تصوير: محمود أبو حصيرة)
غزة/ يحيى اليعقوبي:

انقشع غبار الحرب وتلاشى دخان الصواريخ، عاد غسان السوسي (29 عامًا) لبيته وهو يتكئ على عكاز بعد بتر قدمه تعطل على أثرها من العمل، وانتظر عامًا واثنين وما زال ينتظر منذ تسعة أعوام اعتماد اسمه ضمن كشوفات جرحى عدوان 2014 الذين ترفض السلطة صرف أي مخصصات مالية لهم تُعينهم على الحياة، في مخالفة للقانون الفلسطيني.

ما تزال عائلة السوسي تكتوي بنار المعاناة والألم الذي ينكِئ جراحها كل عام، لتجدد معاناتهم في يوم الجريح الفلسطيني الذي يصادف الثالث عشر من مارس/ آذار من كل عام.

ولم تشفع احتجاجات عديدة نظمها جرحى عدوان 2014، تطالب باعتماد السلطة السوسي ومئات الجرحى لتتركهم يواجهون مصيرًا قاتمًا، ليجدوا أنفسهم داخل عتمة إعاقتهم.

يوم الجريح الفلسطيني الذي يحييه الشعب الفلسطيني شاهدًا على جرائم الاحتلال وانتهاكاته للقوانين الدولية، وارتكابه مجازر بشعة منذ النكبة ما يزال جرحها ينزف حتى اليوم، وهو مناسبة تُذكّر العالم بتلك المآسي التي سببها الاحتلال.

يوم محفور بالذاكرة صباح الأحد الموافق 20 يوليو/ تموز 2014 يوم ما زال محفورًا في ذاكرة السوسي، حينما كان يجلس على عتبات باب بيته، فتحولت اللحظات الهادئة التي سادت حي الشجاعية وقتها ليوم دامٍ بفعل صواريخ الاحتلال، في لحظات لا تغيب عن ذاكرة الشعب الفلسطيني إذ استُشهد فيها 74 مواطنًا وأُصيب مئات الجرحى، حينما توالت عليهم القذائف والصواريخ الإسرائيلية بلا هوادة.

اقرأ أيضًا: جراحنا أوسمة الوطن.. لافتة وسط غزة تكريمًا للجريح الفلسطيني

مرت تسع سنوات وما يزال السوسي يذكر ذلك اليوم بكل تفاصيله، أصوات القذائف، وصراخ الأطفال والنساء الذين حاولوا الهرب من الصواريخ، وطوابير من الذين نزحوا عن المنطقة، يروي ما احتفظت به ذاكرته من ذلك اليوم لصحيفة "فلسطين": "سقط صاروخ إسرائيلي بقربي فأُصبت بقدمي وبُترت على الفور، لكن تأخرت سيارة الإسعاف عن القدوم لنقلي".

لأكثر من نصف ساعة ظلَّ الألم ينخر جسده، والدماء تتدفق دون توقف من قدمه كشلال مندفع، بقية التفاصيل لم تفلت من ذاكرته: "عندما حاول المسعفون التقدم نحوي لإسعافي، ونقلي للمشفى كانت طائرات الاحتلال تطلق الصواريخ عليهم لمنعهم من التقدم للمنطقة، لا زلت أرى مشاهد الناس وهي ملقاة على جانبي الطريق، كان يومًا صعبًا".

يكوي قلبه قهرٌ يرافق نبراته الغاضبة: "أعيش في بيت إيجار، ولدي أربعة أطفال، كنت أعمل على عربة يجرها حيوان لبيع الفاكهة والآن لا أستطيع العمل، ألا يكفي ما تعرضت له في الحرب؟ حتى تصرف لنا مخصصات ويعيش أطفالي حياة كريمة".

قد يستطيع السوسي "إسكات صوت الجوع القادم من أمعائه" وهو يربط بحجارة الصبر، لكنّ هذا الأمر لا يمكن تحقيقه مع "أربعة أطفال لديهم احتياجات أساسية"، فتمثل حالته كمن يسحب العكاز منه ويطلب منه السير.

قطع رواتب عانى كل جرحى فلسطين من الاحتلال الذي تَسبّب بالجريمة فبعضهم تعرض للبتر، وبعضهم تكررت إصابتهم ومنهم من اعتُقل واستُشهد، وعددٌ كبير عانى أيضًا عدم صرف مخصصاتهم أو اعتمادهم ضمن كشوفات الجرحى، ونحو 1100 جريح فلسطيني قطعت السلطة رواتبهم في يناير/ كانون الثاني 2019.

اقرأ أيضًا: "جبارين": دماء الجرحى والشهداء ستزهر في أرض التحرير

على كرسي متحرك وقف الجريح خالد 35 عامًا (اسم مستعار طلب عدم الكشف عن هويته) مصدومًا بعدما وضع بطاقته البنكية داخل الصراف ليجد حسابه فارغًا من الراتب، ودون تاريخ 1 يناير/ كانون الثاني 2019، في ذاكرته كجريح فلسطيني قطعت السلطة راتبه، وتركته هو وأطفاله الخمسة يواجهون الأمرّين.

في البيت كان أطفاله ينتظرونه على عتبة باب البيت بلهفة، ما أن لمحوه يطل من أطراف الطريق حتى تسابقوا نحوه، للظفر بقطعة نقدية وهدية اعتاد إحضارها مع كل راتب لكل واحدٍ فيهم، لكن كان الحال مختلفًا هذه المرة، وهو ينقل إليهم الخبر بملامح شاحبة وصوت مقهور: "قطعوا الراتب".

وبالرغم من تنظيم الجرحى المقطوعة رواتبهم وقفات واعتصامات احتجاجية عديدة إلا أنّ السلطة لم تُعد صرفها لهم حتى اليوم، لتحرِمهم من أبسط حقوقهم بالعيش في "حياة كريمة".

قبل خمسة عشر عامًا وتحديدًا في 1 مارس/ آذار 2008 كان خالد على موعد مع حدث غيَّر مجرى حياته، عندما اجتاحت قوة إسرائيلية خاصة معززة بآليات عسكرية منطقة "عزبة عبد ربه" شمال قطاع غزة، تزامن مع توجهه لتقديم امتحان جامعي، فكان هدفًا لطائرة إسرائيلية دون طيار التي أطلقت صاروخًا أدى إلى بتر قدمَيه من فوق المفاصل.

يعود بذاكرته خمسة عشر عامًا للوراء يسرد لصحيفة "فلسطين" تفاصيل الحدث قائلًا: "كنت أحاول الخروج من المنطقة مساءً، لأن الاجتياحات في تلك الأثناء كانت تستمر عدة أيام؛ وتعرضت للقصف من الطائرة فكانوا يستهدفون أي جسم يتحرك".

تغادر كلمات القهر قلبه عند قطع راتبه: "لدي خمسة أبناء فمن ناحية الحركة يلزمني مواصلات وعلاجًا ومتطلبات أبناء وكلها أصبحت غير متوفرة الآن بسبب قطع مصدر دخلنا الوحيد، فكان صدمة كبيرة لي ولأبنائي".

لم تكن المعاناة سهلة على عائلة هذا الجريح، يصف لحظة قطع الراتب بأنها "أصعب لحظة في حياته"، ويتمم بأسى: "أي مشوار ستخرجه ستضطر لطلب سيارة، بالكاد أستطيع تأمين الاحتياجات لعشرة أيام من الشهر ونمضي بقية الأيام في وضع صعب، بالرغم من أنه يفترض استثناء الجريح من أيّ مناكفات ويجب أن يُحترم لأنه ضحّى بدمه".

بالرغم من كل ما تعرّض له، رفض أن يستسلم للإعاقة فاندمج مع الحياة بقراءة الكتب، فمنذ إصابته قرأ أكثر من 100 كتاب، ويهمس في أذن كل جريح في يومهم: "نحن مسلمون ونؤمن بقضاء الله وقدره، وثقافة شعبنا تختلف عن أيّ شعب، فنحن نحب الحياة ولا نستسلم للإعاقة، ونظرة المجتمع باعتزاز بالجريح تجعلنا نُقبل على الحياة ونندمج فيها".

ووِفق معطيات وإحصائيات فلسطينية، يبلغ عدد الأفراد ذوو الإعاقة في فلسطين نحو 93 ألفًا، ويُشكّلون 2.1 بالمائة من مجمل السكان، فيما يبلغ عدد ذوي الإعاقة في قطاع غزة نحو 48 ألفًا، أكثر من خُمسهم من الأطفال، في حين تشير التقديرات إلى أنّ أعداد ذوي البتر تبلغ ألف شخص.