بعيدا عن فذلكات السياسة، وانتقاء الألفاظ، واختيار المفردات بعناية، فإنه يصعب علي بصفتي فلسطينيا ذاق من ويلات مجرم الحرب غانتس، الذي صب علينا في غزة أطنان المتفجرات، أن أتقبل زيارة "أبو مازن" له في منزله، المقام على أراضينا المحتلة في قرية رأس العين قضاء الرملة، وفيها بلدتي "عاقر"، التي أجبر فيها أجداد غانتس القادمون من أقاصي الأرض، أبي وجدي على الهجرة منها، وطردوهم بالحديد والنار، والمجازر والمذابح، ليس هذا فحسب، بل وتبادلا الهدايا ..كثير هذا والله، فما هذه بسياسة، ولا دبلوماسية، بل يمكن لنا أن نطلق عليها أي مصطلح أو مفردة إلا السياسة!
غانتس أيها القراء الكرام، وزير حرب الاحتلال، مرتكب الجرائم ضد الفلسطينيين، وتلاحقه المحاكمات الدولية، ولا تحط طائرته بأي مطار أوروبي خشية اعتقاله، فرش مدخل بيته وردا ورملا في استقبال "أبو مازن"، وقد تباحثا في "قضايا أمنية ومدنية، وصفها الإسرائيليون بأنها "على المحك"، وركزا على اهتمامهما المشترك في تعزيز التنسيق الأمني، والحفاظ على الاستقرار الأمني، ومنع "الإرهاب" والعنف، وفق التوصيف الإسرائيلي، مقابل اعتزام الاحتلال مواصلة الإجراءات الهادفة لتعزيز الثقة في المجالين الاقتصادي والمدني.
مما كشفه الإسرائيليون عن هذا الاجتماع "الحميمي الدافئ" الذي جمع عباس وغانتس، أن نجل الأخير دخل فجأة عليهما، فقام والده بتقديمه لعباس، زاعما أنه "صنع جنديا"، الذي رد عليه بالأمل أن يخرج السلام من هذا البيت، مع العلم أن الجندي في التعريف الإسرائيلي يعني الاحتلال والقتل والموت، في حين السلام في تعريف عباس وفريقه يعني الخنوع والخضوع وإدارة الخد الأيمن لهذا الجندي ووالده بعد أن يضرب على الخد الأيسر!
وفي حين أهدى غانتس ضيفه بعضا من "زيت الزيتون"، المصادر والمسروق من أراضينا المحتلة، فقد قدم له الأخير هدية، لم تعرف ماهيتها بعد، لكن من الواضح أنها تتمثل بتكثيف التنسيق الأمني، وملاحقة المقاومة، وتعبيد الطرق أمام قطعان المستوطنين لاقتحام أراضينا وإحراق حقولنا وتدنيس أقصانا، والويل والثبور وعظائم الأمور لمن يحاول من الفلسطينيين التصدي لهم، لأن ذلك سيعكر صفو صاحب الضيافة!
لقد مثلت زيارة عباس الحميمية لغانتس في منزله المسروق من أصحابه الفلسطينيين قمة الكوميديا السوداء، وحالة التجاهل للكارثة التي يحياها أبناء الشعب الفلسطيني بسبب السياسة القمعية التي ينتهجها غانتس وجنوده القتلة، في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس المحتلة، ما يطرح تساؤلات جدية حول طاقم المحيطين به، ممن نصحوه، وشجعوه على هذه الزيارة "الفضيحة"، بل إنهم أثنوا عليها، وعدوها اختراقا للحصار الإسرائيلي، وكسرا للجمود السياسي القائم مع الاحتلال، وهو ذاته المنطق القديم الجديد الذي دأب عليه شعراء البلاط وكتبة السلطان في تأييدهم لكل ما يصدر عنه، حتى لو كان خطأ سافرا، وخطيئة لا تغتفر!