بعد ثلاثة عقود من عمر حركة حماس، لم تبق تجربتها حكرًا على منتسبيها ومفكريها، بل تحولت إلى حركة شعبية تحظى باهتمام سياسي شامل لتوجهاتها وقراراتها العسكرية والأمنية والاقتصادية بالإضافة إلى تأثيراتها الاجتماعية. فحركة حماس التي كانت تعرّف نفسها في ميثاقها عام 1988 على أنها "جناح من أجنحة الإخوان المسلمين في فلسطين" أصبحت ترى نفسها منذ مايو 2017 "حركة تحرّر ومقاومة وطنية فلسطينيَّة إسلامية، هدفها تحرير فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني، مرجعيَّتها الإسلام في منطلقاتها وأهدافها ووسائلها". وبالتالي تحولت من حركة إصلاح اجتماعي تقدم خدمات تعليمية وصحية واجتماعية عبر مؤسسات المجتمع المدني والمساجد، إلى حركة سياسية تقود حكومة و"مؤسسات دولة" وتنافس في المؤسسات السياسية المحلية والإقليمية. ولعل ذلك ما دفعها لأن تعيد صياغة نفسها وتفسر مبادئها في "الوثيقة السياسية" التي أعلنتها عام 2017.
ومن الإنصاف القول إن حركة حماس لم ترث تجربة حكم عن جماعة الإخوان المسلمين في أي من الأقطار العربية أو حتى الإسلامية، وهذا ما وضعها عام 2006 أمام اختبار فريد، بأن تجمع بين الحكم والمقاومة. وتلك جدلية لم تنتهِ بعد لدى بعض مكونات الحركة ومنتسبيها، ومع ذلك فقد نجحت تلك الثنائية التي قدمتها حماس في قطاع غزة بالمحافظة على مؤسسات الحكومة واستمرار تقديم الخدمات الأساسية في الصحة والتعليم والأمن؛ ونجاحها في تطوير المقاومة لتصبح منظومة وطنية متكاملة تجمع كل فصائل العمل الوطني.
إن فكرة الدولة التي لم تكتمل في أدبيات حماس خلال العقدين الأولين 1987-2007، قد بدأت تتشكل في تجربتها العملية خلال 15 عامًا تالية. ولعل ذلك مع عكسته كثير من المواقف والخطابات التي رافقت مسيرتها السياسية في إدارة المجلس التشريعي وتشكيل الحكومات الفلسطينية المتعددة بدءًا بالحكومة العاشرة برئاسة السيد إسماعيل هنية وليس انتهاء باتفاقات المصالحة مع حركة فتح.
لقد قدمت حركة حماس فكرتها عن الدولة الفلسطينية بشكل صريح وتفصيلي في الوثيقة السياسية وأكدت أنه "لا اعترافَ بشرعية الكيان الصهيوني؛ وإنَّ كلّ ما طرأ على أرض فلسطين من احتلال أو استيطان أو تهويد أو تغيير للمعالم أو تزوير للحقائق باطلٌ؛ فالحقوق لا تسقط بالتقادم" وقالت إنه "لا تنازلَ عن أيّ جزء من أرض فلسطين، مهما كانت الأسباب والظروف والضغوط، ومهما طال الاحتلال. وترفض حماس أي بديلٍ عن تحرير فلسطين تحريرًا كاملًا، من نهرها إلى بحرها. ومع ذلك -وبما لا يعني إطلاقًا الاعتراف بالكيان الصهيوني، ولا التنازل عن أيٍّ من الحقوق الفلسطينية- فإن حماس تعد أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة".
إن تحرير فلسطين هو هدف حركة حماس ومن ثم إقامة الدولة الفلسطينية، ومن ثم فإن مشاركة الحركة في العمل السياسي هو أحد أركان عملها، ومن أهم وسائلها لتحقيق أهدافها المرحلية بالمحافظة على الثوابت الوطنية وإقامة الدولة على التراب الفلسطيني المحرر، بالشراكة مع كل الفصائل والقوى الوطنية الفاعلة.
إن من متطلبات الدولة القائمة على الشراكة والتعددية السياسية ألا يتجاهل من في الحكم قوى المعارضة أو المكونات الوطنية والسياسية الأخرى. وبالنظر إلى كون حركة حماس هي من تدير قطاع غزة وحركة فتح هي من تدير الضفة الغربية، فلزم حماس أن تقدم نموذجًا فريدًا في التنسيق والشراكة في القرارات الاستراتيجية مثل قرارات المواجهة مع الاحتلال وحتى مواجهة جائحة كورونا! ففي الإدارة الداخلية للوضع الفلسطيني يعد ذلك مشاركة سياسية حقيقية وفاعلة، خاصة بعد أن انقلبت حركة فتح على نتائج انتخابات 25 يناير 2006، وأفشلت كل محاولات المصالحة، والتي كان آخرها تعطيل انتخابات المجلس التشريعي التي كانت مقررة في مايو 2021 لأسباب حزبية بحتة.
ومما يحسب لحركة حماس أنها لم ترتكب خطيئة حركة فتح بحل أجهزتها العسكرية وإدماجها في أجهزة السلطة الأمنية، وتشتيت كوادرها في مناصب السلطة. فحركة حماس لم تدمج جهازها العسكري وبنيتها التنظيمية في الحكومة، بل حافظت على فصل عملها الحركي التنظيمي وأدواته المقاومة عن شكل ونظام العمل الرسمي الحكومي. فقد لجأت الحركة إلى تعزيز مؤسسات الحكم المدنية والأمنية بكوادر وطنية من خلال الفصائل الفلسطينية جميعًا، رغم أن الحركة هي الفصيل الأقوى والأغنى من حيث الكوادر المؤهلة، والتي ساهمت في إدارة مؤسسات وطنية عبر عشرات السنين في الداخل والخارج، وعملت على استقطاب كفاءات فلسطينية من الشتات.
وعلى ذلك فقد استثمرت الحركة وجودها في الحكومة من أجل تعزيز بنية المقاومة وإسناد العمل المقاوم معنويًا وماديًا، وهو ما شهدت به نتائج أربع مواجهات عسكرية (الفرقان 2008-2009، حجارة السجيل 2012، العصف المأكول 2014، سيف القدس 2021) كانت تهدف إلى إنهاء حكمها وإبادة الحركة وتدمير قدراتها العسكرية، لكن الحركة خرجت في كل مرة أقوى وأقدر على مواجهة العدو الصهيوني، مع المحافظة على الحكم والوفاء بحاجات الناس المدنية والمعيشية اليومية، في ظل حصار ظالم ما زال مستمرًّا حتى اليوم.
إن السؤال حول فرص تجنب حماس لحصار غزة وتفادي شروط الرباعية، كان ولا يزال حاضرًا، وهنا لا بد من الإجابة عليه بكثير من الصراحة، فحصار غزة كان ولا يزال قرارًا دوليًا، تشترك فيه كل الأطراف التي لا ترغب في نجاح تجربة حكم حركة مقاومة تنتمي للتيار الإسلامي الوسطي؛ بل والوقوف أمام أي استثمار لشرعية صندوق الانتخابات لحركة رفعت شعار التحرير بالمقاومة، والعمل العسكري في وجه الاحتلال الإسرائيلي.
وبالتالي لم يكن مطلوبًا من حماس التخلي عن الحكم فقط، بل والتخلي عن سلاحها الذي ترفعه في وجه المحتل، وهو ما قال به الرئيس عباس والرباعية الدولة وحتى ما عرف بالرباعية العربية، وهي نفس شروط الاحتلال الإسرائيلي، كان ذلك من خلال شعارات مخادعة من قبيل “السلاح الشرعي” ومطالبة حماس بوقف "الأنفاق الهجومية" في مقابل تسهيلات معيشية على المعابر، وأخرى من قبيل سلامة القادة في مقابل تنازلها عن العمل المسلح والاندماج في "التسوية السياسية".
لا يزال التطبيع هو مهدد حقيقي أمام المقاومة الفلسطينية وخاصة حماس، التي تأثرت بالتطبيع العربي بشكل واضح في العديد من الدول العربية، وهي حالة لا يمكن إنكارها أو تجاوزها في الحسابات السياسية، لكن لا يمكن بالمقابل رهن المشروع الاستراتيجي الوطني بتراجع طرف محلي أو إقليمي.
إن أي حركة مقاومة تعمل في ظروف كالتي تواجهها حركة حماس، لابد أن تحافظ على مرونة كافية من أجل المحافظة على مكتسباتها الوطنية والدولية. وقد قدمت حماس نموذجًا راقيًا في الشراكة الوطنية مع الفصائل الفلسطينية، وخاصة حركة فتح في مراحل متعددة سواء في حوارات القاهرة منذ 2003 وصولًا إلى تفاهمات اسطنبول-القاهرة 2020، وقد تكلل ذلك بتنازل حماس في ملفات متعددة شملت تمثيلها في الحكومة وقبولها بتوالي الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني، من أجل الوصول إلى مصالحة فلسطينية-فلسطينية حقيقية.
وقد استطاعت حماس أن تعيد ترتيب علاقاتها الاستراتيجية مع دول عربية وإقليمية على أساس من المصلحة السياسية والاقتصادية والأمنية. كما حدث مع مصر نهاية 2017. وتجاوزت الحركة قواعد الشراكة الأحادية التي كانت تفرضها بعض الدول! فقد أصبحت الحركة تجمعها علاقات مميزة مع فرقاء سياسيين ودول لا تتفق مع بعضها في مسار القضية الفلسطينية. فهي تحتفظ بعلاقات مميزة متوازية مع القاهرة وطهران وأنقرة والدوحة. وهي لا تزال تدير تلك العلاقة بما يسمح باستمرار دعم القضية الفلسطينية في أبعادها السياسية والعسكرية والاقتصادية وحتى الاجتماعية القومية.
ولا تزال الحركة تبذل جهودًا جادة لإقناع المجتمع الدولي بأن عزلها وحصار غزة لا يمكن أن يكون حلًا، بل رفع الحصار وإعادة الإعمار وتحقيق المصالحة الوطنية هي المفاتيح القابلة للاستخدام.
إن مسار حركة حماس بعد 34 عامًا يشكل تحولًا صريحًا في فكر الحركة وسلوكها؛ من الدعوة والإصلاح الاجتماعي إلى الدولة والحكم.