شاع في الأشهر الأخيرة مصطلح "العتبة النووية" Nuclear Latency وارتبط الحديث بشكل مباشر بتحذيرات إسرائيلية من أن تصبح إيران "دولة عتبة نووية" Nuclear Threshold State. فهل هذا يعني أن المنطقة باتت على أعتاب حرب نووية؟ أو أن مواجهة عسكرية قادمة لا تخلو من استخدام سلاح نووي؟
من المهم معرفة أن وصول إيران أو غيرها من الدول إلى أن تصبح دولة عتبة نووية لا يعني أنها امتلكت قنبلة نووية، بل إن استخدام القنبلة النووية كسلاح استراتيجي يتطلب امتلاك معدات عسكرية متعددة لتتمكن دولة ما من إطلاق هذه القنبلة بفعالية، كأن تمتلك صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية أو غواصات قادرة على إطلاقها من البحر. فلم تعد فكرة إلقاء قنبلة نووية من طائرة على عدو يبعد آلاف الكيلو مترات أمراً سهلاً، كما حدث خلال الحرب العالمية الثانية في أغسطس 1954، عندما ألقت الولايات المتحدة الأمريكية أول قنبلتين نوويتين في التاريخ على جزيرتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين.
وتعتبر اليابان من الدول التي تصنف على أنها دولة عتبة نووية -رغم أنها لا تمتلك سلاحاً نووياً- بمعنى أنها تمتلك الخبرات والتقنيات والمواد اللازمة لصناعة قنبلة نووية لو قررت ذلك، لكنها لم تفعل. إذ أن أي سلاح -تقليدي أو غير تقليدي- لابد من تجربته ميدانياً، بمعنى تنفيذ تجربة تفجير نووي حقيقي، وهذا ما لم تفعله أي من دول العتبة النووية، مثل اليابان وكندا وألمانيا وأستراليا.
إنه لمن المفيد التعرف على تجربة جمهورية جنوب إفريقيا النووية. فقد تمكنت من صناعة سلاح نووي كامل في سبعينيات القرن الماضي، أي خلال نظام الفصل العنصري، ثم قامت بتفكيكه في نهاية ثمانينيات ذلك القرن، وقامت بالتوقيع على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية عام 1991، ومعاهدة حظر الأسلحة الكيميائية في عام 1995. ثم صدَّقت على معاهدة حظر الأسلحة النووية في عام 2019، وبذلك أصبحت جنوب أفريقيا هي أول دولة نووية تفكك أسلحتها، وبقيت تصنف على أنها دولة عتبة نووية. وذلك كله لم يعنِ في أي وقت من الأوقات أن امتلاك جنوب إفريقيا للسلاح النووي أو تركه قد منحها أفضلية ما. لكن وجودها ضمن دول العتبة النووية يبقى مثار تخوف من كل جيرانها والدول العظمى، بالتأكيد. وبالإضافة إلى جنوب إفريقيا فإن جمهوريات سوفيتية سابقة تخلت أيضاً عن سلاحها النووي هي أوكرانيا وروسيا البيضاء وكازاخستان.
بالنظر إلى أن المسافة بين طهران وتل أبيب هي أكثر من 1700 كم (مسار جوي مباشر 1724 كم ومسار أرضي 2152 كم)، ومع توفر غلاف متعدد من الرادارات والمضادات الإسرائيلية والإقليمية في خدمة "إسرائيل" وحليفتها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا؛ فإن إرسال قنبلة نووية إيرانية إلى "إسرائيل" يمثل تحدياً عسكرياً حقيقياً، هذا على فرض أن استخدام السلاح النووي هو خيار عسكري حقيقي!
وبحسب تقارير دولية، فإن 9 دول فقط هي من تمتلك سلاحاً نووياً فاعلاً على كوكب الأرض، بما مجموعه 9000 سلاحاً نووياً قابلاً للاستخدام، منها 1800 جاهز للإطلاق في أي لحظة. وتشير التقارير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا هما الأكثر من حيث عدد الأسلحة النووية، سواء تلك التي تحملها صواريخ على الأرض أو في البحر أو في الجو. حيث تمتلك روسيا 7000، والولايات المتحدة 6800. فيما تمتلك فرنسا 300، والصين 270، وبريطانيا 215، وباكستان 140، والهند 130، وإسرائيل 80، وكوريا الشمالية 20 سلاحاً نووياً مختلفاً. ويضاف إلى ذلك نحو 15 ألف رأس نووي تنتظر التفكيك موزعة على الدول العظمى. ويذكر أنه حتى ثمانينيات القرن الماضي كانت نحو 70 ألف رأس نووي فاعل.
إن المخاوف التي عبر عنها المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي "ران كوخاف" يوم 30 نوفمبر 2021 من أن تصبح إيران دولة عتبة نووية، يعكس حجم التهديد الذي تمثله إيران على "إسرائيل" ليس فقط من حيث كونها دولة ولكن أيضاً من كونها ترعى العديد من حركات المقاومة العسكرية لإسرائيل بما فيها اليسارية ناهيك عن الإسلامية. والعدو الإسرائيلي يدرك أن الأسلحة النووية لا يمكنها في المدى المنظور أن تكون سلاحاً تمتلكه فصائل مسلحة! لكنها تستخدم ملف السلاح النووي الإيراني في عدة أبعاد، منها العسكري لحشد دول إقليمية تشترك معها في المخاوف من التفوق العسكري الإيراني، ومنها السياسي للضغط على حلفائها الكبار وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية لعدم العودة لاتفاق 5+1 الخاص بالنووي الإيراني عام 2015. فهي لا تزال تلوح بخيارات التحرك المباشر ضد إيران، لكنها تعلم أن ذلك دونه حسابات إقليمية ودولية كبيرة.
ستبقى المخاوف الإسرائيلية حاضرة وستستمر إيران في سعيها لأن تصبح دولة نووية -حتى وإن لم تصرح بذلك- لكن أحداً لا يقل بأن استخدام السلاح النووي هو مسألة وقت في أي مواجهة إسرائيلية إيرانية في المستقبل، خاصة وأن نشوب حرب تقليدية بينهما أمر غير مرجح، ناهيك أن تكون حرباً غير تقليدية. ويبقى السلاح النووي يستخدم للردع أكثر من كونه سلاح عمليات عسكرية، فهو حلم لكل دولة ذات سيادة، ناهيك أن يكون متطلب نفوذ وقوة إقليمية أو دولية.