كلما سقط شهيد جديد في الضفة أو على حدود غزة، وتمكن جيش الاحتلال من الوصول إلى جثته.. تعود فكرة مقابر الأرقام إلى أذهاننا وبقوة.. وتمضي أفكارنا إلى طرح أسئلة نعجز عن الحصول على إجابات لها وخاصة عندما نشاهد على الإعلام أمهات الشهداء وهنَّ يبكين بحسرة ويطلبن جثث أبنائهن لدفنها.. أليس دفن الميت إكرامًا له؟ أليس من حق كل أم استشهد ابنها أن تعرف المكان الذي يضم رفاته؟ أم أن هذه المعادلة لا تنطبق على الفلسطيني الذي يتنكر العالم لحقوقه حيًّا وميتًا؟
مقابر الأرقام، مدافن لا إنسانية لا أخلاقية، تمتهن الفلسطيني الذي تقع جثته بين أيدي الكيان المحتل.. يُطلق عليها الاحتلال "مقابر ضحايا الأعداء"، يتعمد الاحتلال أن يحيطها بالغموض والسرية ويُبقي كل ما يتعلق بها مجهولًا: عددها، وأماكن وجودها، وعدد الشهداء المدفونين في كل منها، وهوياتهم. قد تكون مدافن في الأرض وقد تكون ثلاجات شديدة البرودة تحمل أرقامًا سرية.. المهم أن يبقى الشهيد مجهولًا يحترق قلب أمه كل يوم عشرات المرات وهي تتمنى زيارة قبره. وأهله وأصدقاؤه ومحبوه أيضًا، لن يعلموا في أي بقعة من الأرض يُحتجز جثمانه.. لا تعتقدوا أن هذا الأمر مقصور على جثث الرجال.. أبدًا، فجثث النساء والأطفال أيضًا معرضة للاحتجاز في مقابر الأرقام.
بعد احتلال فلسطين، لجأ الصهاينة إلى ابتكار إجرامي جديد كما هو دأبهم منذ اللحظة الأولى لوجودهم على هذه الأرض، أموه" مقابر الأرقام". انشقت أذهانهم المتوحشة عن فكرة احتجاز جثث الفلسطينيين والعرب ممن كانوا يدافعون عن فلسطين واستشهدوا على أرضها كنوع من العقوبات يسقطونها على الشهداء لأنهم تحدَّوا جبروتهم وقاوموهم.
توسع مفهوم مقابر الأرقام وممارساتها بعد ذلك لتضم جثث الأسرى الذين يقضون في سجون الاحتلال أيضًا، وتخيل معي هنا: لم يكتفوا باحتجاز الأسير حيًّا، بل يكملون احتجاز جثمانه ميتًا!
عمد الاحتلال إلى إحاطة المقابر بأسلاك شائكة، بعد أن بدأ يدفن فيها جثامين الشهداء والأسرى، مدافن لا تشبه المدافن سوى بالاسم! قبورها عبارة عن حفرة بسيطة بالقرب من سطح الأرض تحيط بها الحجارة، وبدلًا من شاهد القبر الذي يشير إلى صاحب القبر وتاريخ وفاته، تُثبَّت فوق كل قبر لوحة معدنية تحمل رقمًا!
ملف سري يحمل الرقم ذاته تحتفظ به الجهات الأمنية المسؤولة في دولة الاحتلال حول كل ما يتعلق بالمدفون في مكان خاص يعرفونه هم فقط، يضم بين دفتيه بيانات الشهيد المحتجز، ولا يطَّلع عليه غيرهم. وهو ما يعني أنه لن يكون بإمكان أي شخص التعرف إلى الشهيد المدفون في هذا المكان سوى من يمتلكون الملف. فلو مضى أهل شهيد للبحث عنه، فلن يكون ذلك مجديًا من دون الملف الذي يحمل الرقم.
اكتُشف عدد من تلك المقابر مصادفة، أو من خلال صحافة الاحتلال ذاتها، وعُرف من مقابر الأرقام حتى الآن أربع:
مقبرة تقع في منطقة عسكرية عند ملتقى الحدود الإسرائيلية-السورية-اللبنانية وتجاور جسر بنات يعقوب، وبها ما يقرب من 500 قبر، مقبرة أخرى تقع في المنطقة العسكرية المغلقة بين مدينة أريحا وجسر دامية في غور الأردن، ويحيط بها جدار وبوابة حديدية، وفيها أكثر من 100 قبر. وهناك مقبرة أخرى في غور الأردن أيضًا مقبرة ريفيديم. ومقبرة "شحيطة" وتقع في قرية وادي الحمام، شمال مدينة طبريا الواقعة ويوجد بهذه المقابر نحو 349 جثة.
منذ انتفاضة القدس التي فجَّر شرارتها الشهيد ضياء التلاحمة، ولحق به صديقه مهند الحلبي الذي استشهد بعد أن أخذ بثأره، زاد عدد جثث الشهداء المحتجزة في مقابر الأرقام بشكل متسارع، فكل شهيد ينفِّذ عملًا مقاومًا ويستشهد، فإنهم يحولون جثمانه إلى الثلاجات السرية (وهي الصورة الجديدة المبتكرة من ثلاجات الأرقام)؛ اعتقادًا منهم بأنهم بذلك يخيفون الفلسطينيين ومن ثم يخففون من وتيرة عمليات المقاومة الفلسطينية ضدهم.
يحتفظون بجثمان الشهيد في ثلاجات سرية تصل درجات الحرارة فيها إلى 70 درجة تحت الصفر، ومع طول المدة تتشوه ملامح الجثة، وقد تحدثت الأُسر التي تسلمت جثامين أبنائها بأن الشهيد كان عبارة عن قالب من الثلج، يحتاج إلى وقت طويل ليذوب، وعادة ما يُسلم الاحتلال الجثة بعد قضايا ومحاكم تستمر وقتًا طويلًا، ويسلمونه لذويه ليلًا ويفرضون عليهم دفنه بسرعة في مكان هم يحددونه ومن دون جنازة وبعدد قليل من الأشخاص، هذا إن استطاعوا كسب القضية واستصدار حكم بتسلم الجثة!
السلطة الفلسطينية مقصِّرة في قضية مقابر الأرقام واحتجاز جثث الأرقام، كما هي مقصِّرة في الكثير من القضايا الأخرى التي تقض مضاجع الشعب الفلسطيني وتوجعه، وبدلًا من تضع حدًّا لغطرسة الاحتلال وجبروته، نراها تقف على أعتاب الصهاينة وتحت بساطيرهم تستجديهم، وفي الوقت ذاته تضيِّق على الفلسطيني وتشارك في حصاره وتمنعه من ممارسة حقه المشروع في مقاومة من اعتدى على أرضه واحتلها وقتل أبناءه وسلب حريته وكرامته.
ولا تزال دولة الاحتلال مستمرة في ممارستها هذه السياسة السادية اللا إنسانية بحق الفلسطينيين، والتي تناقض القانون الدولي، على حين نجد الصهاينة يطالبون دول العالم بإنشاء متاحف لضحايا الهولكوست وقد نجحوا في ذلك فعلًا، ويحفظون في تلك المتاحف بهويات الأشخاص الذين قضوا في المحرقة، وبياناتهم وصورهم إن توفرت.. ويؤكدون أن هذا من حقهم، ويفرضون على كثير من الزعماء والرؤساء زيارة ضحايا الهولوكوست قبل أن يبدؤوا زيارتهم للدول التي حُرق فيها يهود مثل ألمانيا.
أما ما يخص الفلسطينيين.. فهم ينكرون كل حق له، حتى لو كان في وجود قبر معروف يضم رفاتهم يستطيع أهلهم زيارته متى شاؤوا!