لم تكن حياة نور الدين محمد بركة، كغيرها من أبناء جيله، بل كانت محطات متنقلة بين العلم والمساجد وميادين المقاومة والجهاد.
فمنذ الصغر كان "نور" يقضى جلّ وقته في جنبات مساجد خان يونس، مصليًّا وحافظًا للقرآن الكريم، وصولًا إلى درجة الداعية والمربي الذي تتلمذ على يديه عشرات الطلبة من أبناء منطقته.
وتقول كوثر بركة، شقيقة الشهيد: إن الأخير عرف بالتزامه الديني منذ صغره دون أبناء جيله.
و"نور" الأصغر بين أشقائه (14 فردًا)، وتوفي والده وهو في العاشرة من عمره.
وتستذكر كوثر حرص شقيقها على أداء الفرائض والنوافل منذ صغره، حتى أنها تذكر أنه كان يقصد مسجدًا في خان يونس يؤدي إمامه 20 ركعة "تراويح" في شهر رمضان، معتبرة ذلك أمرًا لافتًا بالنسبة لطفل في الصف السابع.
ودرس "نور" الشريعة الإسلامية في الجامعة الإسلامية بمدينة غزة، مطلع انتفاضة الأقصى عام 2000م، وحينما ذهب لأداء العمرة عام 2002م اعتقلته قوات الاحتلال الإسرائيلي لمدة أربع أشهر.
ورغم إفراج الاحتلال عن الشاب نور آنذاك، إلا أنه لم يعطه هويته الشخصية، ما دفعه لاستعارت إحدى هويات زملائه من أجل الوصول إلى مدينة غزة، واستئجار شقة سكنية حتى إنهاء دراسته الجامعية برفقة أصدقائه كان منهم الشهيد عماد أبو قادوس. بحسب كوثر.
وتنبه إلى أن شقيقها "نور" تأخر في دراسته الجامعية؛ لانشغاله بأعماله الجهادية.
وعقب اندحار الاحتلال الإسرائيلي عن غزة، عام 2005م، توجه "نور" لأداء العمرة مجددا وأثناء عودته من السعودية حصل على تنسيق من مصر لدخول أراضيها.
وتضيف: "نور" احتاج هذا التنسيق من أجل زيارة قبر والدنا الذي توفي في مصر أثناء رحلة علاجية، ولم يسمح الاحتلال آنذاك بدفنه في قطاع غزة.
وبمجرد دخوله الأراضي المصرية، بحسب شقيقته، اعتقلته المخابرات المصرية ومكث في سجونها أربعة شهور حتى أنه لم يشهد حفل تخرجه الذي عقدته الجامعة الإسلامية.
وعقب عودته من مصر، التحق "نور" ببرنامج الماجستير في الشريعة الإسلامية عام 2008م، لكن انخراطه في العمل الجهادي أخّر تخرجه كثيرًا، فقد تعرض لاستهداف إسرائيلي من طائرة استطلاع ما أدى لإصابته في قدمه إصابة متوسطة أقعدته "فراش المرض" مدة شهر كامل.
وبعدها تعرض لحادث سير ما أدى لتوقفه عن الدراسة، دون التوقف عن أعماله الجهادية.
وتتابع كوثر: رغم انشغال "نور" في عمله الجهادي إلا أنه استطاع مناقشة رسالة الماجستير عام 2018م تحت عنوان "الإهمال الجهادي - دراسة فقهية مقارنة" بحث من خلالها كيفية جعل الجهاد مضبوطا بضوابط الشريعة والتقليل من إهدار الأروح في العمل العسكري.
الحياة الاجتماعية
تزوج "نور" عام 2005م، وأنجب خمس إناث وولدًا، فكان نعم الأب الحنون والرحيم، ولم يحزن يوما لأنه رزق بـ "بنت" حتى أنه عندما رزق بالبنت الخامسة "عائشة" باشر على الفور بذبح العقيقة وتوزيع الحلوى. والكلام لشقيقته.
وتذكر أن أحد الأشخاص دعا له بأن يرزقه المولى بـ"العوض بالولد"، فرد عليه "نور" بالقول: "لِمَ العوض؟ هل أنا مُبتلى؟ إنهن نعمة وبابٌ للجنة"، فكان اللين والرحيم تجاه الإناث (سواء زوجة أو شقيقات أوأم) السمة البارزة في شخصيته.
تقول كوثر: كان (رحمه المولى) حنونا عطوفا علينا خاصة في أوقات مرضنا وضعفنا، وعلى أطفاله حريصٌ على تربيتهن التربية الإسلامية الحقة فيحثهن على إشغال وقت فراغهن بحفظ القرآن والمطالعة في المكتبة الخاصة به في منزله.
ومنذ ولادة "نور" تعود "كوثر" بذاكرتها للوراء، كان له منزلة خاصة في قلب والدته جعلت جميع أشقائه وشقيقاته يشعرون بـ"نوع من الغيرة منه".
تتابع كوثر: "لقد جعلنا نغار منه في حياته ومماته، فمنذ صغره ووالدتي تتعامل معه وكأنها لم تنجب غيره، واستمر هذا التعامل حتى استشهاده".
وتستحضر موقفا كوثر "أذكر أن أخانا نور منذ مداومته على الصيام عام 2007م، ورغم أن زوجته كانت تُعد له طعام الإفطار يوم صيامه إلا أن والدتي كانت إذا اقترب أذان المغرب تحمل الطعام وتظل تنتظره أمام المنزل (..) حتى إذا ما مر بالمنزل (قريب من بيت والدته) لتقدم له الطعام، لشدة تعلقها به".
وتكمل: "نحن ندرك أن استشهاده ابتلاء عظيم لوالدتنا".
قبل الشهادة
تستحضر "كوثر" الكثير من المواقف العسكرية لشقيقها "نور" والتي نجا خلالها من الاغتيال عدة مرات.
وتذكر قبل شهر من استشهاده مازحته قائلة: "أرى أن رأسك اشتعل شيبًا، فرد قائلًا (فعلا أنا طولت)".
وفي مساء 11 من نوفمبر/ تشرين ثان، استيقظتُ "كوثر" على صوت صواريخ الاحتلال فجاءها زوجها ليخبرها بأن هناك "حدثًا أمنيًا" وأن القائد "نور" في ذات الحدث.
دقائق معدودة، حتى وصل "كوثر" رسالة هاتفية من شقيقتها "إيمان" تخبرها: "أخونا نور استشهد" وهو خبر تصفه بأنه "الأصعب".
وتختم "كوثر": "كما كنا نغار منه في حياته جعلنا نغار منه في مماته على هذه الشهادة والكرامة العظيمة التي حظي بها".
ذكريات أخرى
وبعد مرور ثلاثة أعوام على استشهاده القائد نور بركة، فإن ذكريات الشاب أحمد أبو عنزة مع الشهيد "نور" لم تفارقه لحظة.
يقول أبو عنزة: "تعرفتُ عليه وأنا أدرس في كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية حيث كان يدرس الماجستير وتوطدت العلاقة بيننا تدريجيا".
يضيف: اختارني الشيخ نور للإمامة في مسجد الشهيد إسماعيل أبو شنب في بلدة عبسان الكبيرة الذي كان يتولى متابعته إداريًّا، ويقيم حلقات علم فيه يدرس فيه طلاب العلم الفقه وعلوم التجويد.
ويذكر أنه خلال السنوات الأخيرة لحياة الشيخ نور، لم تفت الشيخ الراحل تكبيرة الإحرام سوى تسع مرات، كما كان حريصا على الجلوس في المسجد بعد صلاة الفجر حتى شروق الشمس لا يمنعه عن ذلك أي شيء حتى لو كان المرض.
ويستحضر الإمام أبو عنزة موقفًا آخر: "كان عندما يغفو في المسجد يضع تحت رأسه زجاجة ماء بدلاً من الوسادة حتى لا يستغرق في النوم".
ويضيف: "في آخر صلاة له صلى ورائي صلاة العشاء، وكانت تقادير المولى أن تلك الصلاة جمعت أغلب تلامذته وأخذوه بالأحضان وكأنهم كانوا يشعرون بأنه اللقاء الأخير لهم معه".
ويصف أبو عنزة الشيخ نور بأنه "داعية ومربيا حريصا على ألا يصدر عنه تصرفات تسيء له، فكان مرجعاً وقدوة لتلاميذه في الالتزام بالطاعة والجدية والانضباط وحريص على استقطاب الشباب الذين يتوسم فيهم الخير لطريق الدعوة".
أما الشيخ خالد أبو مصطفى (إمام المسجد القريب من بيت الشهيد نور) فيبين أن الشهيد التزم بالمسجد منذ كان في العاشرة من عمره، "كانت تبدو عليه علامات النجابة منذ الصغر، فكان محباً للقرآن وحفظه، ومميزاً بالالتزام بالصلاة.
ووصف الشيخ أبو مصطفي الشهيد بركة بـ"صاحب الهمة العالية والعزيمة والشغف في طلب العلم، كما كان يكرس جل وقته لطلب العلم والتعليم".
ويجزم بأن الشيخ نور أنه "أول من سنّ المخيمات العلمية الشرعية في شرق خان يونس".