عقد مركز الزيتونة للدراسات قبل أيام ندوة عن بعد، استضاف فيها الأستاذ إسماعيل هنية، للحديث حول (رؤية حركة حماس المستقبلية للنهوض بالمشروع الوطني الفلسطيني)، وقد قدم الأستاذ هنية ورقة شاملة ومهمّة في تضمّنها مجملَ التحديات والعقبات التي تواجه المشروع الوطني وتُعطّل تقدمه، إضافة إلى عناصر رؤية الحركة للنهوض بهذا المشروع.
وإن كان من المهم دائماً أن تظل لدى الحركات الريادية وذات الفاعلية رؤية واضحة يتعرف عبرها الناس إلى تصوراتها وأدواتها لإدارة المراحل المختلفة بتعقيداتها وتحدياتها، غير أنه في المقابل ينبغي الاقتصاد في تصور إمكانية طرح حلول وتصورات مبتكرة، أو خلق معجزات، أو تحويل مسارات كبرى، في ساحات لا تعدّ هذه الحركات الفاعل الأساسي فيها من ناحية التمكّن والمسؤولية وامتلاك أدوات إدارتها، وأمام إشكالات كبرى نتجت عن سياسات قارفها غيرها، أي خصومها السياسيون، وعن تفرّدهم وهيمنتهم وإصرارهم على إدارة المشهد الفلسطيني وفق منهجية خائبة، ظلت الأيام والسنوات تثبت عقمها وخطرها على مجمل المشروع الوطني.
فمن جانب، لا يبدو منطقياً دائماً إحالة أمر الواقع الفلسطيني إلى حماس وافتراض أن عليها أن تحل الإشكالات التي صنعتها سياسات السلطة وحركة فتح، في حين تظلّ الأخيرة بمنأى عن المسؤولية وعن المطالبات الجدية بأن تقدم هي ما يفكك هذه الحالة، وما يوقف النزيف في خاصرة المشروع الوطني، أو يعالج جملة الخطايا التي ترتبت على المسار السياسي لحركة فتح، وعلى إصرارها على انتهاج الخيارات الكارثية ذاتها. فحتى مع وجود شبه إجماع فلسطيني على إدانة السلطة ومشروعها وعلى إدراك نتائجه المدمّرة لكل إمكانات تطوير مسار التحرر، فإن إعفاءها من المساءلة الوطنية الجادة يؤمّن لها مساحة مريحة للاستمرار، ويعينها على تحميل خصومها وزر نهجها وآثاره.
ومن جانب آخر، فإن مطالبة كثيرين لحماس بأن تكفّ عن التعويل على إمكانية تعافي الطرف الآخر (أي مشروع السلطة) وطنيا، أو قبول هذا الطرف رؤية حماس التي يشاركها فيها كثيرون من فصائل مقاومة وجمهور، لا يعني أن البديل هو الصراع المسلح بين هذه المشاريع، بل انتهاج المشروع الذي تراه الحركة مجدياً والتقدم به وتطويره، بعيداً عن التباطؤ والانتظار من جهة، أو التهوين من تمايز المشاريع السياسية على الساحة الفلسطينية من جهة أخرى، وهو ما يعني توفير كثير من الوقت والجهد والإمكانات، واستثمار التفكير والتخطيط في تعزيز فرص التقدم بمشروع المقاومة بجوانبه المختلفة، وليس في إحداث تقدم في توافقات شكلية تجد الحركة في كل مرة معها نفسها مضطرة إلى تقديم تنازلات داخلية وإظهار مرونة أمام طرف يزداد تعنتاً وتفرداً وسلاطة وتنكراً لمسؤوليته عن الخطايا السياسية التي دمّرت مسار التحرر وعطلته وتركته نهبة للتنظير الكثير والفعل القليل. ولعلّ التمعّن في جملة التحديات التي أوردها الأستاذ هنية في ورقة الرؤية يؤكد أن الاتفاق على برنامج سياسي مع حركة فتح ليس ممكنا، ولم يعد طرحاً واقعياً، وقد بُذل جهد كبير في سبيل هذا التوافق على مرّ السنوات الماضية، ولكن دون جدوى.
لا يملك أحد أن ينكر حجم التحديات التي واجهتها حركة حماس في مسيرتها الطويلة، وكيف بدا أن عليها وحدها أن تدير مشهداً معقداً إدارياً وسياسياً في غزة، وأن ترعى حالة مقاومة ناهضة ومتطورة باستمرار، في حين اكتفى كثيرون بالاستفادة من دورها في هذا السياق دون مشاركتها في تحمّل الأعباء، لكنّ الحالة الفلسطينية برمّتها يلزمها وضوح أكبر وتحديد للمطلوب بدرجة أكثر دقة، على أن يكون هذا المطلوب مسؤولية كل الفاعلين في مشروع المقاومة، وهم اليوم يمثلون أكثر الفلسطينيين، في مقابل فئة معزولة شعبياً لكنها متنفذة ومهيمنة على أدوات القوة والنفوذ والتسلط، مستفيدة من حماية الاحتلال أولا، ومن الغطاء الدولي ثانيا، ومن التقاطع مع سياسات المحيط العربي ثالثا، وهو ما يعني أن خلخلة نفوذها بات مصلحة وطنية عليا، ولكن دون أن يعني هذا أن التصادم الدموي المباشر هو الخيار.
النهوض بالمشروع الفلسطيني يلزمه ابتكار أدوات عمل تفكك الجمود، أو تستجلب تغييراً يعين على تجاوز المشكلات المزمنة، التي لا يحلّها انتظار يقظة ذاتية للعابثين والمفسدين والمتنفذين، وقد لا يكون الحلّ في وضع تصورات مثالية لحالة إجماع وشراكة غير قابلة للتحقق، إنما بالمضي بالمشروع المجدي ومحلّ التأييد فلسطينيا، واستثمار الطاقات كلها في كسر طوق التحديات وتجاوز المسارات العقيمة، وليس التعايش معها، وصولاً إلى صياغة ملامح مرحلة مختلفة، بأثر الفعل المجدي والمباشر، الذي تصبّ نتائجه مباشرة في مسار النهوض والتحرر.