لا يتردد السيد هنية في تقديم المبادرات المختلفة "لإنقاذ المشروع الوطني" والتي تنبع من رؤية عميقة وموضوعية لحركة حماس ضمن مسار طويل قدمت فيه هذه الحركة "سلسلة من الرؤى والمقترحات والمبادرات"؛ لإنقاذ الحالة الوطنية في ظل ما يتهددها من مخاطر متنامية ومتزاحمة تتطلب (التحرك بمسؤولية) والمبادرة "للإنقاذ" والمعالجة الطارئة؛ خشية حدوث انهيارات كبرى وكارثية يمكن أن تصيب القضية الوطنية الفلسطينية، كان آخر هذه المبادرات رؤية وطنية قدمها هنية خلال ندوة لمركز الزيتونة، الأمر الذي يستوجب تلقف هذه الرؤية، والمسارعة لوقف حالة النزيف الوطني بعيدا عن أي اعتبارات جهوية أو حزبية.
فالمتغيرات الكبرى التي فرضت نفسها في المنطقة وأبرزها: 1- الانسحاب الأمريكي من العراق، 2- موجة التطبيع العربي، 3- معركة سيف القدس، وما صاحبها من متغيرات أخرى ألقت بظلالها على المنطقة، فالمقاومة الفلسطينية عززت موقفها بعد معركة (سيف القدس)، واتخذت مواقع متقدمة، وأظهرت مدى قدرتها على إثبات قوتها وحضورها في مسارين: الأول أنها السبيل الوحيد للدفاع عن حقوق الفلسطينيين ولا يمكن المراهنة على برامج أخرى بعد أن استطاعت ردع العدو، والمسار الثاني: أنها تتحرك من منطلق المزاوجة بين الفعل السياسي والفعل المقاوم؛ فكان لها ما أرادت، لأن دول الإقليم والأطراف الدولية كانت تبحث عن قنوات اتصال ولقاءات مباشرة مع حركة حماس، لأنها تملك أوراق القوة ولا يمكن تجاهلها في ظل تأثيرها المباشر.
فالانسحاب الأمريكي أيضا هو متغير مهم عزز القناعات لدى جميع "جبهات المقاومة" أنه يمكن هزيمة الاحتلال ودفعه للرحيل من المنطقة لكن الأمر يحتاج لاستراتيجية خاصة تفرض (استنزافه بشكل متواصل، ومراكمة القوة، وربط خطوط النار، والمبادرة لمهاجمة العدو)، هذا إذا ما تحدثنا عن الإعداد "لمعركة كبرى" يمكن أن تتحرك فيها قوى المقاومة بشكل غير مسبوق، وفي السياق فإن متغير التطبيع هو تطور خطير وكارثي يتسلل في شرايين الأمة يمكن مواجهته من خلال (الوعي، وكشف الحقائق، وحشد طاقات الأمة، وتجريمه، وتعزيز المقاومة)، حتى نفشل مساعي الاحتلال وهذا ما أراد توضيحه هنية في سياق شرح المتغيرات معرجًا على تعطيل الانتخابات أيضا "كمتغير رابع" بل مهدد مباشر يعطل أي إصلاح سياسي.
لكن تحديات أخرى استعرضها هنية كأحد أبرز الأسباب التي أدت إلى تراجع القضية الوطنية وإضعاف الموقف السياسي الفلسطيني: 1- اتفاق أوسلو، والاعتراف بالاحتلال، 2- التراجع القيادي،3- عدم تبني المقاومة من قبل قيادة السلطة كخيار، 4- التوحد مع مسار التسوية، 5- تراجع الدور العربي، لأن هذه الأسباب مجتمعة كانت أكثر التحديات خطورة في وجه الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، فأوسلو نسفت ما تبقى من الحلم وعززت شرعية الاحتلال وقيدت أي مسار للتحرر وحولت شعبنا من صاحب حق إلى (غريب في أرضه)، كما أن التراجع القيادي كان كارثيًّا في ظل التفرد بالقرار وتغليب المصالح الفئوية.
وغياب المقاومة كخيار استراتيجي في أجندة وبرنامج السلطة أدخلها في مقامرات متعددة ومغامرات خلفت نتائج مفجعة وصادمة ومنها اعتماد التعاون والتنسيق الأمني كنهج لتثبيت كيانية ووجود السلطة، في ظل غياب أي رؤية لتعديل المسار السياسي على الرغم من الانتكاسات المتكررة في برنامج التسوية والذي ارتطم بالجدار العازل وبالاستيطان وبالتنكر الإسرائيلي والتجاهل الفاضح لهؤلاء.
كما أنه لا يمكن بحال تجاهل التحدي الأبرز وهو التجاهل أو (التخلي العربي) عن القيام بالدور المطلوب تجاه فلسطين، ولا نعي بذلك مشاريع "الإعانة والإغاثة" وإنما الدعم العلني والمباشر لفلسطين في: (الدعم السياسي، وتعزيز دور المقاومة، ورفع الحصار، ومواجهة التطبيع)، كعناوين مهمة وضرورية لم تكُن حاضرة بالشكل المطلوب في أي جهد عربي رسمي إلا ما ندر كمواقف بروتوكولية، الأمر الذي أدى لتغول الاحتلال وارتفاع وتيرة عدوانه على الشعب الفلسطيني.
هذه المتغيرات والتحديات التي عصفت بالمنطقة عموما وفلسطين خصوصا فرضت تحركا وطنيا فلسطينيا عاجلا تمثل رؤية هنية التي لخصها في:1- إعادة الاعتبار لمشروعنا الوطني، 2- إعادة بناء منظومة القيادة الفلسطينية ممثلة بـ(منظمة التحرير)، 3- الاتفاق على برنامج سياسي، 4- تحديد استراتيجية نضالية، 5- إعادة الاعتبار لمشروعنا في بعده العربي والإسلامي، ولو استعرضنا هذه الخطوات التي شملها طرح هنية؛ ندرك تمامًا أنها رؤية "موضوعية ومتوازنة" يمكن أن تشكل خريطة طريق للخروج من الوضع الراهن، وتفادي المخاطر المحتملة في ظل دعوته لإصلاح وطني وسياسي يشارك فيه المجموع الوطني وليس حركة حماس بمفردها.
لكن وعلى الرغم من أهمية هذه المبادرة بما حملته من "قيمة" وما شكلته من "فرصة"، فإنها ستواجه بتحديات مباشرة تمنع تحقيقها في الوقت الراهن، لأن قيادة السلطة الفلسطينية تخشى من القيام بأي تغيير سياسي في برامجها، وليس لديها أي رغبة في إحداث تغيير جذري في بنية السلطة أو المنظمة، ولا تريد إعادة الاعتبار للمشروع الوطني ببعده العربي والإسلامي؛ لأنها ترتبط عضويًّا ووظيفيًّا بالاحتلال والإدارة الامريكية، ولا يمكنها السماح بأي خطوة من شأنها فرض قوى سياسية في المشهد على حسابها في ظل الانهيارات والانحرافات الوطنية التي تعيشها، لذلك ستسعى لتبهيت المبادرة، وتحميل حركة حماس المسؤولية، وستتجاهل كل الدعوات الوطنية لالتقاط هذه الرؤية وأكثر من ذلك.
الأمر الذي يفرض على كل المكونات الوطنية التحرك الفوري باتجاه:
1- تشكيل جبهة وطنية ضاغطة على السلطة، 2- التحرك شعبيًّا وعلى نطاق واسع لدعوة السلطة للاستجابة الفورية لمطالب الجماهير، 3- مطالبة الأطراف العربية والإسلامية للتحرك وبشكل عاجل للقيام بدورها تجاه المخاطر التي تتعرض لها القضية وممارسة الضغط اللازم على السلطة لمنعها من التفرد بالقرار، 4- وتوقيع وثيقة وطنية تحذر السلطة من مغبة المقامرة بحقوق الشعب الفلسطيني، وتعطيها سقفًا زمنيًّا للاستجابة للنداءات والمطالب الوطنية، والا فإن شعبنا سيذهب لعزلها وعدم الاعتراف بها.