القيم المجتمعية هي المعبر عن حضارة أي أمة، وهي نتاج ثقافاتها وتاريخها ومعالم حاضرها.
وكثيرة هي القيم التي تحكم المجتمعات المتحضرة، بدءًا من قيمة احترام حق الآخرين في استخدام المال العام على نحو متساوٍ، إلى قيمة احترام مشاعر الآخرين وعدم إيذائهم بالنظر أو الكلام أو التصرفات، إلى قيمة احترام الجمال والنظام العام، إلى قيمة احترام الوقت، إلى قيمة احترام العمل وبذل كل الوقت في خدمة المواطن، إذا كان المعني موظفًا عامًّا، والزبون إذا كان موظفًا خاصًّا، إلى قيمة نبذ من يسيء إلى هذه القيم من المجتمع والتعامل معه شخصًا غير مرغوب فيه.
هذه القيم التي طالما أحببناها ومدحنا وجودها واحترامها في الغرب، وتمنينا أن تكون متأصلة في نفوس أبناء شعبنا، ولكم عانينا من غيابها، ولكم شعرنا بالمرارة ونحن نرى عدم احترامها، وما يسببه ذلك من إسباغ مظهر من التخلف والغوغائية على مجتمعنا، على ما فيه من أصالة ونفوس أبية كريمة سخية مضحية!
إذًا ما العلة في احتفاظ شعبنا بقيم هي أعز على النفس كثيرًا من القيم الأخرى التي يهدرها؟ فقيمة بذل النفس هي لا شك أعز كثيرًا لدى الإنسان من قيمة الحفاظ على المال العام، وقيمة الكرم والسخاء هي لا شك أعز على النفس من قيمة احترام مشاعر الآخرين مثلًا أو قيمة احترام وقت العمل.
إذًا لماذا يتشبث المواطن العربي عمومًا والفلسطيني خصوصًا بقيم دون قيم؟
أظن العلة تكمن في الراعي لهذه القيم ومنظومة الحفاظ عليها وتعزيزها، في الغرب مثلًا لا نجد لقيمة الكرم والسخاء هذا الاهتمام الذي نجده لدى المواطن العربي، وكذلك لا نجد لقيمة إغاثة الملهوف هذا الاهتمام أيضًا، على حين نجد لقيمة احترام الآخرين ومشاعرهم والحفاظ على المال العام اهتمامًا أكبر بكثير، ويبدو أن مرد ذلك كله إلى كل من الأسرة والمؤسسات الرسمية ودور كل منها، فقيم الكرم وإغاثة الملهوف والتضحية بالنفس وبذل المال هي قيم تغرسها الأسرة في نفوس أبنائها، وتتوارثها الأجيال بتطبيق عملي ونظري، ولذلك ينشأ الفتى العربي متسلحًا بهذه القيم محافظًا عليها بشكل يثير الدهشة، وكثيرة هي الشواهد على بذل النفس أو بذل المال رغم قلة ذات اليد في الأخيرة وهوان المواطن على حكومته في الأولى، ولذلك إن تماسك الأسرة العربية واحترامها أديا الى احترام القيم التي ترعاها الأسرة وتحرص عليها، على حين نجد اضمحلالًا في القيم التي من المفترض أن ترعاها المؤسسة الرسمية تعليمية أو تثقيفية أو دينية، ذلك أن تلك المؤسسات لا تقوم بهذا الدور حسب اعتقادي، فلا أظن أن مناهج التعليم فيها متسع لتعليم القيم أو الأخلاق التي يجب أن تسود، بل هي مثقلة بأنواع شتى من العلوم التي لا أظن الطالب قادر على استيعابها كلها، خصوصًا طلاب المراحل المبكرة من المرحلة الأساسية والمتوسطة، ولا أظن المؤسسة الثقافية تعنى بغرس تلك القيم بوسائلها المعهودة من الفنون المختلفة، بل ربما كانت بعض الفنون سببًا في إهدار تلك القيم.
أما المؤسسة الدينية فتراها تبذل جهدًا مقدرًا في نشر الوعي الديني والالتزام بالمظاهر الدينية والحث عليها، دون أن تبذل القدر نفسه من الجهد في تعزيز الجانب القيمي، ولذلك وجدنا مظاهر تدين واسعة الانتشار مع قليل من القيم المجتمعية.
وكل ذلك أدى إلى أن مظاهر الحضارة التي تبرزها القيم المرعاة من مؤسسات الدولة ظاهرة وغاية في الوضوح بكل ما لها من انعكاس إيجابي على السمت العام الظاهر للمجتمع الغربي، على حين تنزوي القيم العربية لكونها غير منعكسة على السمت المجتمعي العام لأنها قيمة شخصية، يحترمها الشخص في مكنونات نفسه وليس لها انعكاس ظاهر على السمت المجتمعي العام؛ فالكريم كريم في نفسه وطابعه، ولكن كرمه يعود على نفسه وليس له انعكاس على الحالة الحضارية للمجتمع، على حين قيمة الحفاظ على المال العام أو احترام وقت العمل لها انعكاس هائل على سمت المجتمع الحضاري، وهي قيمة ظاهرة معبرة عن حالة المجتمع الحضارية.
ولذلك نرى في المجتمع الفلسطيني مظاهر تدمي القلب من فوضى في مختلف مجالات الحياة العامة وعدم احترام أو تقدير لكل شيء عام، على حين تحترم الملكيات الخاصة وقيمة الحياة الخاصة أيما احترام، وقد أدى ذلك إلى وجود مواطن نظيف في بيته قذر في الشارع، يحترم نظام الأسرة وأصولها ولا يحترم النظام العام ولا يقدره، يحافظ على ممتلكاته الخاصة ولا يكترث بإتلاف الممتلكات العامة، يعطي جهده الكامل للعمل في بيته ولا بأس لديه بأن يضيع وقت العمل الرسمي المأجور عليه في لعب "البابجي" على حاسوب العمل.
إنها صرخة مدوية نطلقها لرعاة قيم المجتمع العامة، أن أعيدوا لهذه القيم احترامها حتى لا تغيب عظمة شعبنا خلف حطام تلك القيم.