دأبت الحكومات الصهيونية المتعاقبة على تنفيذ مخططات التهويد للقدس والمسجد الأقصى، عبر سلسلة من الفعاليات الاستفزازية للمسلمين والعرب عامة والمرابطين في فلسطين والقدس خاصة، وذلك في سبيل فرض واقع جديد يعزز من الوجود الصهيوني داخل باحات المسجد الأقصى المبارك على حساب الحق الفلسطيني الأصيل، وصولًا إلى تحقيق هدف التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى -على غرار ما هو واقع في الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل- إيذانًا بإقامة الهيكل المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى المبارك، لكن المرابطين في القدس كانوا لتلك المحاولات الخبيثة بالمرصاد، ونجحوا في إفشال الكثير منها، كما حدث في معركة البوابات الإلكترونية وهبة باب الرحمة ومسيرة الأعلام في 28 رمضان الماضي، وغيرها.
عمليات الاقتحام اليومية وهدم الأحياء المقدسية وتهجير العائلات الفلسطينية، وعمليات الاحتيال والالتفاف لشراء العقارات في البلدة القديمة بالقدس تصاعدت بشكل لافت على الأرض في الآونة الأخيرة، يأتي ذلك بموازاة حالة الردة السياسية العربية الرسمية والهرولة نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل، التي تعدّت التطبيع السياسي إلى تعزيز الاستثمار الاقتصادي والتبادل التجاري وتشجيع السياحة المتبادلة، في محاولات "صهيوعربية" بائسة لتوجيه ضربة نجلاء للوعي الجمعي في الأمة بشأن خطورة المشروع الصهيوني، ما شجّع الاحتلال على اتخاذ مزيد من الإجراءات التهويدية لترسيخ الوجود اليهودي داخل الحرم القدسي أمرًا واقعًا.
الجديد هذه المرة في الإجراءات الصهيونية الميدانية في القدس المحتلة هو السماح بإقامة "صلوات تلمودية صامتة" داخل باحات المسجد الأقصى، بعد أن كانت هذه الطقوس ممنوعة ومحرّمة على قطعان المغتصبين المقتحمين للأقصى، والاقتصار على السماح بـ"الزيارات" والاقتحامات اليومية بأعداد قليلة على أن تزاد تدريجًا، وهذا ما يحصل في هذه الأيام تحديدًا؛ علمًا أن هذا المنع لـ"الصلوات الصامتة" لم يكن مرتبطًا بأحكام قضائية أو لوائح قانونية صهيونية، وإنما استجابة لتقديرات أمنية تقدّمها شرطة الاحتلال للجهات الرسمية باحتمالية اشتعال مواجهات بين المرابطين المقدسيين ومجموعات المغتصبين وقوات الشرطة الصهيونية، ردًّا على تلك الطقوس المستفزة للمشاعر الدينية للفلسطينيين والعرب والمسلمين.
قاضية "محكمة الصلح الصهيونية" في القدس كانت قد قضت في بداية شهر أكتوبر الحالي بأنّ الصلاة الصامتة في المسجد الأقصى "لا يمكن تفسيرها على أنها عمل إجرامي"، وأنه ليس هناك ما يمنع "الحق الطبيعي لليهود بالصلاة في جبل المعبد" حسب تعبير المحكمة، لكن تلك الأحكام والتفسيرات القانونية لم يكن لها أي أثر ميداني على أرض الواقع، بسبب رفض شرطة الاحتلال إقامة تلك الصلوات من حيث التوقيت، وتحذيرها أنها قد تزيد من فرص انفجار الأوضاع في القدس والضفة الغربية والداخل المحتل، حتى غزة التي خاضت في مايو الماضي معركة سيف القدس، ردًّا على محاولات تهجير أهالي حي الشيخ جراح، وتمرير مسيرة الأعلام الصهيونية.
إذًا واقع الحال يشي بخطورة المرحلة القادمة على الوضع القائم في القدس المحتلة، إذ يسعى الاحتلال الصهيوني إلى إحداث علامة فارقة في مسلسل التهويد للمدينة المقدسة، عبر تحقيق إنجاز نوعي يتمثل في السماح بأداء "الصلوات الصامتة" وبتأييد ومباركة من "محكمة الصلح الصهيونية" هذه المرة، بعد أن كان لليهود "حق الزيارة" للمكان فقط دون أداء طقوس توراتية، ما يعني أننا أمام مرحلة خطرة عنوانها السماح لقطعان المستوطنين بأداء صلواتهم "لكن صامتة"، وأن موضوع التقسيم الزماني والمكاني بات قاب قوسين أو أدنى في حال نجح العدو بتمرير هذا المخطط الخبيث على العرب والمسلمين.
ما يؤيد التخوّفات والتوقعات بسعي الاحتلال لإحداث تغيير جوهري في الوضع القائم بالقدس المحتلة لمصلحة المخططات التهويدية هو تحذير جهاز الشاباك (الأمن الداخلي) الصهيوني من تفجّر الأوضاع من جديد في القدس المحتلة، لا سيما في أعقاب الحكم الصادر عن محكمة الصلح التابعة للاحتلال في القدس، إلغاء قرار إبعاد أحد اليهود المتطرفين عن الأقصى بعدما أدى الصلاة "علنًا" في الحرم القدسي، إذ يخشى "الشاباك" إقدام مجموعة كبيرة من اليهود على محاولة منظمة لأداء الصلاة "علنًا" داخل المسجد الأقصى، ما يساهم في تأجيج الصراع من جديد وإعادة الاعتبار لقضية القدس في الوعي العربي والإسلامي.
صحيفة "هآرتس" العبرية كانت قد نشرت تحقيقًا سابقًا أظهر أن مجموعات من اليهود المتدينين والعلمانيين على حدٍّ سواء يؤيدون ويدفعون باتجاه إقامة صلوات "علنية" داخل المسجد الأقصى، استعجالًا في حرق المراحل واستباقًا للمخططات الصهيونية الرسمية، التي تسعى لتكريس مخطط التقسيم الزماني والمكاني ابتداءً، بفرض واقع جديد يتمثل في إقامة "الصلوات الصامتة"، فالعلنية في مرحلة لاحقة، وصولًا إلى بناء وتدشين "الهيكل" على أنقاض المسجد الأقصى الأسير، وهذا ما يؤكد خطورة إقامة هذه الصلوات في ساحات الأقصى وأمام أبوابه، وهو ما يفسّر رغبة الشاباك في تمرير هذا المخطط بهدوء ودون إحداث فعاليات استفزازية من شأنها تفجير الصراع من جديد.
الجانب الأردني الذي يُعهد إليه إدارة الأوقاف الإسلامية في القدس المحتلة لم يصدر عنه أي رد فعل يتناسب وحجم الجريمة الصهيونية على إجازة "الصلاة الصامتة"، سوى البيان الذي أصدرته الخارجية الأردنية في 6 أكتوبر الجاري، الذي جاء فيه أن "القرار باطل ومُنعدم الأثر القانوني حسب القانون الدولي الذي لا يعترف بسلطة القضاء "الإسرائيلي" على الأراضي المحتلة عام 1967 وفيها "شرقي القدس"، وأنه يعد خرقًا فاضحًا لقرارات الشرعية الدولية المتعقلة بالقدس"، ليُضاف إلى جانب المواقف والتصريحات الاستهلاكية التي لم تغيّر أي شيء من حقيقة وواقع التغوّل الصهيوني على الأوقاف الإسلامية في القدس والأقصى.
ثمة مخاوف حقيقية أمام هذا السعار في الإجراءات التهويدية المتصاعدة التي تنفّذها حكومة "بينيت - لابيد" التي وُصفت بالضعيفة والهزيلة؛ إذ تتجرأ على تمرير ما عجزت عنه حكومة نتنياهو اليمنية المتطرفة -وكلهم متطرفون- عبر سياسة "القضم الناعم" للوضع القائم في القدس المحتلة، واعتماد سياسة الاحتواء بدلًا من المواجهة المباشرة، ما يضع جموع الأمة وجماهير الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة أمام مسؤولية كبيرة في التصدي لهذا العدوان السافر، كما حدث في معركة "سيف القدس" التي وضعت الاحتلال في مأزق عسكري وسياسي ودبلوماسي خطر، حين تفاعلت معها الجماهير الفلسطينية في كل أماكن وجودها، وتجاوبت معها الجماهير العربية والإسلامية حتى الأوروبية، انسجامًا مع المعادلة التي حفرتها المقاومة الفلسطينية في الوعي الجمعي بأن غزة وسلاحها لا يمكن أن يتأخرا عن الدفاع عن القدس والأقصى.