قُبيل كلِّ موسمٍ من مواسم قطف الزيتون في فلسطين، وفي أثنائه، يزداد استهدافُ المستوطنين شجرة الزيتون، بالقلع والحرق والنشر، وسائر أشكال التخريب، حين يكون الفلاحون الفلسطينيون وغيرهم في انتظار ثمرها الذي طالما شغل مكانةً تتجاوز قيمتَها المادية، فالزيت عمارة البيت، وهو كما في المثل الشعبي "مسامير الرُّكَب". ووفقًا لرئيس هيئة شؤون الجدار والاستيطان، في السلطة الفلسطينية، وليد عسّاف، يشنّ المستوطنون حملة اعتداءات على المزارعين وأراضيهم، تزداد في موسم قطف الزيتون الذي يشكِّل مصدر دخل لنحو مائة ألف أسرة فلسطينية.
ويكرِّر مزارعون تقديم شكاوى لشرطة الاحتلال، من دون أيِّ استجابة مُجدِية، وفق شهادات عدّة لمزارعين فلسطينيين، تعرَّضت أشجارُهم للتخريب المتعمَّد. وكثير من تلك الأعمال التخريبية تجري بحماية قوَّات الاحتلال، وتُظهِر بياناتُ اللجنة الدولية للصليب الأحمر في القدس، وأجددُها في 12 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، أنه خلال فترة عام (أغسطس/ آب 2020- أغسطس/ آب 2021) جرى تدمير أكثر من 9300 شجرة زيتون في الضفة الغربية. ويزيد هذا من تعقيد الوضع الصعب، بالفعل، ويعمِّق الأزمة؛ إذ على المزارعين الذين تقع حقولهم خلف الجدار الفاصل، أو بالقرب من المستوطنات، التقدُّم للحصول على تصاريح خاصة، للوصول إلى أراضيهم. وتقول رئيس بعثة اللجنة الدولية في القدس، إلس ديبوف، إن اللجنة الدولية لاحظت، على مدار السنوات، ارتفاعًا موسميًّا في أعمال العنف التي يرتكبها المستوطنون الإسرائيليون المقيمون في بعض المستوطنات والبؤر الاستيطانية في الضفة الغربية تجاه المزارعين الفلسطينيين، وممتلكاتهم في الفترة التي تسبق موسم قطف الزيتون، وكذلك خلال موسم الحصاد في شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/ تشرين الثاني. وتضيف: "كما يتعرَّض المزارعون لأعمال مضايقة وعنف تهدف إلى منع نجاح المحصول، ناهيك عن إتلاف معدَّات الزراعة واقتلاع أشجار الزيتون وحرقها. إنه أمر مقلق للغاية، وسنواصل حوارنا مع السلطات المسؤولة بشأنه".
ما سرُّ عداء المستوطنين لأشجار الزيتون في فلسطين؟ أَلِأنَّ أكثرَها أقدمُ من وجودهم؛ فهم يشعرون بطارئيَّتهم، واقتحامهم المشهد، مقابل ذاك التلاحُم والتآلُف بين الفلاح الفلسطيني وأرضه وزيتونه الصُّلْب الراسخ؟ أم لأنها بخضرتها الدائمة والمثمرة من الدلائل على حضارة الشعب الفلسطيني؟ أم لأنها من مصادر الصمود الفلسطيني والعطاء المتواصل؛ من الأجداد إلى الأبناء والأحفاد؟ أم لأن موسم قطف الزيتون يغيظهم، بحيويته وتدفٌّقه، متوازيًا مع تدفُّق الزيت في المعاصر، في طقس جمعي احتفالي سنوي؟
مهما كانت الدوافع، هذه الأفعال الاقتلاعية التي تُحِيل أرضًا مشجَّرة إلى جرداء، بعد الحرق، أو بعد الاقتلاع، أو النشر (حين لا يواتيهم الصبر)، هي في مقابل الفعل الحضاري الإنساني، وخصوصًا في عصرنا هذا الضَّنِين بالشجر، والحريص على استبقائه؛ لاستبقاء ما أمكن من الأوكسجين، ومظاهر الحياة الطبيعية.
يأتي المستوطن، على أشجار الزيتون المثمرة، والمعمّرة، بعود ثقاب حارق، أو بجرَّافة كاسحة، أو بمنشار سريع الإزهاق لروح الشجر؛ ليقضي، في لحظاتٍ، على تعب سنين، وصبر طويل، وحنوٍّ من أصحابها الأصليِّين؛ فاعليَّة سلبٍ مقابل فاعليَّة إيجاب، فلا هم يتركون الشجر إلى دورة حياته المديدة، ولا هم حتى ينتفعون به. (إلا حين يقرّرون سرقة ثمار الزيتون).
أرض فلسطين المباركة، أرض التين والزيتون.. والزيتونة القَنوعة إلى الماء، تنبت، وتنمو، وتتعمَّق، ولو في عرق صخرة..، أقدر على الصمود والاستغناء من شجر ونبات كثير غيرها؛ تستفيد دولةُ الاحتلال من بيع لوازمها للسوق الفلسطينية؛ من وسائل الرِّي، ومن مبيداتٍ، وسماد، وغيرها.
وتنتج الضفة الغربية أكثر من 95% من الإنتاج الكلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67. وهذه الكمية من الإنتاج تقدر قيمتُها بحدود 80-90 مليون دولار. وبذلك، تشكّل قيمة هذا الناتج 12- 13% من قيمة الدخل الزراعي الذي يقدَّر في حدود 800 - 900 مليون دولار سنويًّا، وتسهم الزراعة في الدخل الإجمالي لفلسطين بنسبة 20 - 25%.
في موسم قطف الزيتون مظهر طبيعي وعفوي لشعبٍ على أرضه، وبين غرْسِه، يزاحم الوجودَ الاستيطاني المصطَنع، مقابل دولة الاحتلال التي، بكلِّ إمكاناتها، تحاول باستمرار تغيير الطبيعة الفلسطينية ومعالمها، بالطرق الالتفافية، وتشجِّع المستوطنين على الإقامة في مستوطنات الضفة الغربية؛ على أمل أن يصبح وجودُهم طاغيًا، في الطرق، وعلى التِّلال.
ويحيل هذا الاستهداف الاستيطاني لشجرة الزيتون إلى استهداف الاحتلال الأشمل الريف الفلسطيني الذي يقع معظمُه في المناطق المصنَّفة ج، والتي تخضع خضوعًا تامًّا ومباشرًا للاحتلال، هذا الريف الذي كان مسكَن معظم الفلسطينيين، أوائل القرن العشرين. والاستهداف، اليوم، لا يقتصر على الأرض والموارد المادية، بل يتعدَّاهما إلى الموارد البشرية، حيث يجري استقطاب كثيرين من أبناء الريف إلى العمل في الداخل الفلسطيني والمستوطنات الصهيونية؛ ما أسهم، مع عوامل داخلية فلسطينية، إلى تغذية الروح الربحية السريعة، مقابل الاكتفاء، أو شبه الاكتفاء، من الأرض وفلاحتها، أو الاستثمار الزراعي فيها.
هذا الإصرار الفلسطيني الراسخ، جيلًا بعد جيل، على الاحتفاء بشجرة الزيتون يؤكِّد بطلان الأكذوبة الصهيونية الشهيرة عن أرضٍ بلا شعب لشعبٍ بلا أرض، ليُضاف إلى دلائل أخرى (ليس آخرها ما اضطرّت حكومة الاحتلال إلى كشفه؛ من ألوف الوثائق التي تؤكِّد الرواية الفلسطينية القائلة إنَّ مئات ألوف الفلسطينيين الذين رحلوا عن وطنهم، عام 1948، تعرَّضوا لعملية طرد، عبر "جرائم حرب" مقصودة صهيونيًّا) تفنّد مزاعم التفوُّق العرقي والأخلاقي.