الأجهزة الأمنية الفلسطينية تمكنت من إحباط ٤٥٠ عملية خطيرة في العام الحالي، هذا ما كشفت عنه صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية الأسبوع الماضي، نقلًا عن مصادر أمنية أكدت أن أجهزة الأمن الفلسطينية تعمل بشكل ممتاز، وتقوم بدور مهم في حفظ الأمن.
هذه الأرقام الصادمة التي تمت خلال بضعة أشهر تعني أن المعلومات التي قدمتها السلطة لـ(إسرائيل) تحت إطار ما يسمى التنسيق أو التعاون الأمني أدت إلى ارتقاء العديد من أبناء شعبنا، ناهيك بجرح العشرات واعتقال المئات وهدم بيوت منفذي عدد من العمليات البطولية، وأن المئات من شباننا باتوا مطاردين لا ينعمون بأي استقرار.
إن التنسيق الأمني أصبح سيفا مصلتا على رقاب شعبنا، ما يدفعنا للتساؤل عن جدوى حرص السلطة الفلسطينية على الاستمرار في العمل وكيلا أمنيا وحصريا للاحتلال على حساب شعبنا، وللإجابة عن هذه التساؤلات التي تدور في ذهن غالبية الفلسطينيين لا بد لنا من العودة إلى الظروف التي أدت إلى هذا الوضع المزري الذي تشهده السلطة الفلسطينية.
التنسيق الأمني نصت عليه "اتفاقية أوسلو" المشؤومة التي وقعتها منظمة التحرير برئاسة الراحل ياسر عرفات، ومع مرور الزمن تأكد للفلسطينيين أن التنسيق الأمني هدفه خدمة الاحتلال وتحقيق مصالحه مقابل بعض المكاسب المادية لعدد من المتنفذين وقادة الأجهزة الأمنية.
قبل قيام السلطة كانت إدارة المناطق الفلسطينية فيما يتعلق بالأمور الأمنية والمدنية من مسؤوليات الاحتلال إلى أن جاء "اتفاق أوسلو الذي أوجد وكيلا فلسطينيا يتحمل المسؤولية، ويريح الاحتلال من ثقل المسؤولية، وفي الوقت نفسه عرقل كل الجهود التي تقود لإقامة الدولة الفلسطينية وظلت السلطة تقدم خدمات أمنية للاحتلال حتى أصبح التنسيق الأمني بمنزلة الشريان الذي تتنفس منه السلطة الفلسطينية وتستمد منه مقومات وجودها وبقائها.
على الرغم من صدور عدة قرارات عن المجلس المركزي، تدعو لوقف التنسيق الأمني، إلا أن هذه القرارات بقيت حبيسة أدراج مكتب الرئيس الذي يؤكد تكرارا ومرارا قدسية التنسيق الأمني لأن الرديف لوقفه هو حل السلطة واستبدالها بأجسام أخرى أكثر طاعة وتنفيذا لإرادة المحتل.
رئيس الشاباك المنتهية ولايته نداف أرغمان قال قبل أيام هناك محاولات طوال الوقت لتنفيذ عمليات ضدنا، ونحن ملزمون باستمرار التعاون مع السلطة الفلسطينية والسلطة ملزمة باستهداف حمـاس بشدة في الضفة الغربية وقطاع غزة والخارج.
نَجَم عن التنسيق الأمني وجود طبقة فلسطينية ارتبطت مصالحها مع الاحتلال، وتنطق باسم الاحتلال، وانزلقت إلى مستنقع السقوط الأخلاقي المشين الذي يخجل عن فعله عملاء الاحتلال، حتى أصبح بعض القيادات يصف عمليات المقاومة بأنها أعمال إرهابية وفوضى مسلحة تهدد وجود السلطة واستقرارها.
هذه الطبقة المخملية البرجوازية التي أصبحت تمتلك الملايين والشركات باتت محمية من الاحتلال الذي يقدم لها كل الدعم والإغراءات والامتيازات والمكاسب والتسهيلات على حساب المواطن الفلسطيني الذي يتجرع المر والعلقم في حله وترحاله ومروره عبر الحواجز والمعابر لدرجة أن وزير الشؤون المدنية حسين الشيخ وصف عودة التنسيق الأمني الذي لم يتوقف يوما بالانتصار لشعبنا وهذا يصدق مقولة الراحل "أبو جهاد": "أخشى ما أخشاه أن تصبح خيانة الوطن وجهة نظر".
إن التهديد بوقف التنسيق الأمني والاتفاقيات مع الاحتلال أصبح أسطوانة مشروخة يكررها الرئيس والمرتبطة مصالحهم بالاحتلال لم تعد تنطلي على أحد من شعبنا، كما أنها تقابل بالتهكم والسخرية من الاحتلال.
وعلى الرغم من مزاعم المسؤولين الفلسطينيين بأن التنسيق مع الاحتلال يشمل جوانب حياة الفلسطينيين المدنية، من تنقل وعلاج وعمل، وتجارة، فإن الحقائق تشير إلى كذب هذه المزاعم، فهذه الأنشطة اليومية يديرها المنسق (الإسرائيلي)، الذي يدير كل الأمور في الضفة الغربية.
تعزز التنسيق الأمني بفعل الأيديولوجية التي يتبناها الرئيس عباس، التي تعارض بشكل مطلق العمل المسلح ضد الاحتلال ووصفه للتنسيق الأمني أنه "مصلحة وطنية" فلسطينية، بغضِّ النظر عن الجرائم (الإسرائيلية) بحق الأرض والإنسان الفلسطينيين.
برعت الأجهزة الأمنية في التسابق على إرضاء الاحتلال دونما خجل أو ورع، حيث تنتهك خصوصية المواطنين والقادة عبر التنصت على هواتفهم وتبادل المعلومات عن أعمال خلايا المقاومة، واعتقال من يشتبه برغبته ونيته مهاجمة الاحتلال وحتى قتل المعارضين مثلما حدث مع المغدور نزار بنات.
إن السلطة تقدم أرخص احتلال في التاريخ، ما دفع قادة (إسرائيل) إلى الإشادة بها، والقول إن عباس قدم خدمة لا تقدر بثمن لـ(إسرائيل) من خلال التنسيق الأمني، إضافة إلى أن هذا التنسيق هو ما أبقاه في مقره برام الله دون خوف.
تصر السلطة على أداء دورها الوظيفي على الرغم من استمرار (الاحتلال) في سياساته الإجرامية الممنهجة لإفراغ اتفاق أوسلو من مضمونه، فقد نصّ على وجود سلطة مؤقتة للفلسطينيين مدتها خمس سنوات، كان يجب أن تنتهي بإقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967.
إن ما يدفع السلطة لتقديس التنسيق الأمني هو شعورها بالخطر على مصيرها بعد العزلة السياسية التي باتت تعيشها، وعدم وضوح الأفق السياسي مع إدارة بايدن، إضافة للضبابية الشديدة لمرحلة ما بعد عباس، وعدم القدرة على تحمل النتائج المترتبة على وقف التنسيق مع الاحتلال الإسرائيلي.
بعد خارطة الطريق (٢٠٠٣)، بدأت جهود دوليّة لإصلاح الأجهزة الأمنية ونظرت الولايات المتحدة باهتمام بالغ إلى الدور الأمني للسلطة الفلسطينية في خدمة (إسرائيل)، وأكدت أن مساعداتها للأجهزة الأمنية بالضفة ستتواصل، ورصدت 100 مليون دولار، لدعم الأجهزة الأمنية الفلسطينية على الرغم من توقف الدعم لبقية المجالات المدنية.
وأسفرت هذه الجهود عن نشوء ظاهرة "الفلسطينيين الجدد" والمقصود بهم عناصر الأجهزة الأمنية الذين تم تدريبهم على ملاحقة المقاومين كما خاطبهم أحد ضباطهم: "أنتم لم تُرسَلوا هنا لتتعلّموا كيف تحاربون (إسرائيل).. إنّما أُرسلتم لإنفاذ سيادة القانون حتى نتمكّن من العيش في أمنٍ وسلامٍ مع (إسرائيل)".
ومع استمرار السلطة في خدمة أمن ومصالح الاحتلال، فإننا بحاجة إلى إستراتيجية موحدة للضغط على قيادة السلطة لوقف التنسيق الأمني، وإيجاد حراك فاعل على الأرض يعيد روح المقاومة المتقدة في صدور شبان الضفة.
إن المطلوب إيجاد بدائل وطنية قادرة على لجم المتعاونين مع الاحتلال وتفعيل دور منظمة التحرير وإعادة بنائها لتشمل كل الفلسطينيين، وصياغة برنامج وطني مشترك يحرم ويجرم التنسيق الأمني بكل أنواعه، ويترافق مع ذلك حراك إعلامي يشكل حالة ضغط شعبي ضد التنسيق الأمني ويكشف الدور المشبوه لقادة التنسيق.
كما أن حركة فتح مطالبة بإعادة النظر في بنيتها التنظيمية والاجتماعية بصفتها حركة مقاومة تواجه الاحتلال والاستيطان شعبيا وبكل الوسائل واستبعاد من ارتبطت مصالحهم بالتنسيق الأمني.