ليس سرًّا أن التيار اليميني يشهد تمددًا واضحًا في الشارع الإسرائيلي منذ عقود طويلة، وتحديدًا مع انطلاق عملية التسوية بمؤتمر مدريد في 1991 وصولا إلى توقيع اتفاق أوسلو في 1993، وانتهاء بفشل مفاوضات كامب ديفيد أواخر عام 2000.
كانت الشواهد والمؤشرات على هذه الانزياحات اليمينية أكبر من أن تُخفى أو يُتستر عليها، فضلا عن تجاوزها، وكأن الأمر بهذه البساطة، رغم أن المعطيات تحدثت عن نفسها أكثر من مرة، سواء من خلال تصاعد فرص اليمين في الجولات الانتخابية المتتالية، أو في تراجع شعبية ما تبقى من اليسار المتهاوي، فضلا عن غياب الحديث عن السلام والتسوية مع الفلسطينيين لصالح الحروب والعدوان.
لكن آخر استطلاع للرأي بين الإسرائيليين نشرت نتائجه في الساعات الأخيرة، أثبت بما لا يدع مجالا للشك أن هذا الانزياح اليميني ليس ظاهرة عابرة، بقدر ما هو تحولات حقيقية وبعيدة المدى تعم الشارع الإسرائيلي؛ ما يتطلب من الفلسطينيين والعرب عموما، المسارعين نحو توقيع المزيد من اتفاقيات التطبيع أنهم أمام جمهور يميني ناقم عليهم، رغم ما قد يبديه تودد مزيف وتقرب مصلحي.
كشفت نتائج الاستطلاع الذي أجراه مركز "فيتربي" لدراسات الرأي العام والسياسة في المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، أن 87% من الإسرائيليين يعتقدون أن فرص توقيع اتفاق سلام مع الفلسطينيين في السنوات الخمس المقبلة شبه معدومة ومنخفضة للغاية، في حين أتى السعي للتوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين في ذيل قائمة أولويات الشارع الإسرائيلي، حيث أيد ذلك 8.5% من المحسوبين على اليسار، و6% من مؤيدي الوسط، و1% من اليمين.
لم تكن هذه النتائج مفاجئة لمن يتابع تطورات المشهد الإسرائيلي متابعة لحظية ساعة بساعة، بل إنها جاءت متوقعة، لأنها شكلت تعبيرا "صادقا وصريحا" عما يجول في خاطر الإسرائيليين من هواجس وتطلعات لمستقبل العلاقة مع الفلسطينيين، الأمر الذي تجلى بصورة لا تخطئها العين في رفضهم لأي مسار تسووي معهم من جهة، وتفضيل الإجراءات الأحادية الجانب من جهة ثانية، وتأييد العمليات العدوانية من جهة ثالثة.
لعل ما يمنح نتائج الاستطلاع المذكور مزيدا من الوجاهة و"المصداقية"، ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية الحالية من تجاهل فظ للقضية الفلسطينية، وتركيز على ملفات أخرى، في تطلع واضح للقفز عن الصراع الأخطر في المنطقة، رغم أن حقائق التاريخ والجغرافيا والسياسة تفند هذا التوجه الإسرائيلي.
أكثر من ذلك، فإن سلوك الإسرائيليين الهادف لفرض مزيد من الحقائق على أرض الواقع، لن يقدم لهم أمناً، رغم أنهم يستغلون الوضع الفلسطيني البائس، والهرولة العربية نحو الاحتلال، فضلا عن الانشغال الدولي بقضايا ترى أنها أكبر وأكثر أهمية من الصراع القائم!