منذ سقوط دولة الخلافة العثمانية عام 1922م التي كانت تمثّل إلى حد ما حكم "الإسلام السياسي" - كمصطلح غربي- الذي يعتبر امتدادا للحكم الإسلامي الذي ساد في منطقة الشرق الأوسط وجنوب أسيا وشمال إفريقيا وبعض من أوروبا حسب فترات توسعه أو انكماشه، كان هناك تحدٍّ أمام العالم الغربي الذي كان السبب الرئيس في إسقاط هذا الحكم أواخر عهد الدولة العثمانية، يتمثل في منع الإسلام السياسي العودة للحكم مرة أخرى، وفي سبيل ذلك عملت القوى الغريبة على نشر الأفكار الليبرالية والعلمانية بل واليسارية في دول المشرق الإسلامي لتكون بديلًا عن الفكر الإسلامي الذي يعتبره الغرب خطرًا وجوديًّا على الحضارة الغربية، وظلت الحكومات الغربية تواصل دعمها منذ عشرينات القرن الماضي لأنظمة الحكم التي استولت على السلطة في دول المشرق العربي بعد تقسيمها في اتفاقية سايكس بيكو بدعم واضح من الغرب أو بغض الطرف أحيانًا عن بعض الانقلابات العسكرية التي كانت تستولي على الحكم في دولة هنا أو هناك ما دامت كانت هذه الأنظمة تتساوق مع الأجندة الغريبة في المنطقة، فإذا ما وجدت القوى الغربية أن بعض تلك الأنظمة حاولت الخروج عن الخط المرسوم للسياسة الغريبة في المنطقة سعت إلى تغيرها واستبدالها، وبطبيعة الحال تكون البدائل دائمًا جاهزة ومعدة سلفًا وفي كل الأحوال كان يطلب من تلك الأنظمة الموالية للغرب أن تمنع بشكل واضح وصول أي من حركات الإسلام السياسي إلى الحكم وذلك من خلال التضييق والملاحقة، ربما كانت هناك بعض الاستثناءات في بعض اللحظات التاريخية لهذه القاعدة وذلك حينما كانت تعمل القوى الغربية على ضرب بعض الأنظمة الخارجة عن السيطرة بالقوى الإسلامية الصاعدة، ولكن سرعان ما تعود السياسة الغربية لنهجها القديم بعد أن تحقق الغاية من هذه اللعبة التي مارستها باحترافية.
رغم التضييق الشديد والملاحقة المتواصلة استطاعت قوى الإسلام السياسي أن توجد لنفسها قاعدة شعبية عريضة وتأييد جماهيري واسع بين مختلف شرائح المجتمعات الإسلامية الأمر الذي أصبح يمثل حالة عامة في معظم الدول الإسلامية العربية وبرزت ملامح هذا التأييد الواسع من خلال سيطرة قوى الإسلام السياسي على النقابات ومجالس الطلاب والتقدم الحثيث نحو البرلمانات كلما أتيحت لها الفرصة، وكان من أبرز ملامح هذا التقدم ما حدث في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني عام 2006م تم انتخابات مجلس الشعب المصري عام 2010م الأمر الذي كان سببًا في أن يكون للإسلام السياسي الحظ الأوفر من مكاسب الربيع العربي الذي أزال الحواجز أمام القوى الإسلامية للوصول إلى الحكم وهو الأمر الذي فشلت في التنبؤ به كافة أجهزة الاستخبارات العالمية، وشكل الربيع العربي صدمة قوية للقوى الغريبة المهيمنة على مقاليد السياسة العالمية من خلال شبكات المصالح والنفوذ التي أسستها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
كل ما سبق دفع القوى الغربية إلى تغيير سياساتها التقليدية المتبعة منذ سايكس بيكو في منع الإسلام السياسي من الوصول للحكم مخافة إعادة الحكم باسم الخلافة وتشكيل تهديد مباشر على الحضارة الغربية كما ذكرنا في بداية المقال وتحولت السياسية الغربية ضد الإسلام السياسي من سياسه المنع إلى سياسة الإفشال وهي من وجهة نظري أشد خطرًا وأعظم تأثيرًا، وذلك أن الفشل في الحكم يقود بلا ريب إلى انتقاص التأييد الشعبي التي حافظت عليه القوى الإسلامية خلال عشرات السنين وكان أبرز ملامح هذه السياسة هي غض الطرف عن الإسلام السياسي في الوصول للحكم ومن ثم الإطباق عليه بسياسة العزل السياسي والاقتصادي بمجرد وصوله للحكم حتى تظهر ملامح الفشل من خلال تردي الحالة السياسة والاقتصادية للدول التي يحكمها الإسلام السياسي ومن ثم المهاجمة الشرسة إعلاميًا وتسليط الضوء على جوانب القصور المتعدد في كافة المجالات وهو ما يؤدي حتمًا إلى النفور الشعبي ومن ثم الانفضاض عنها شيئًا فشيئًا ليسهل بعد ذلك القضاء عليه دون سند شعبي قوي يشكل له حماية تمنع حدوث ذلك.
هذا النموذج طبق في العديد من البلدان، وبالكاد نجت منه غزة لاختلاف الظروف ووجود الاحتلال وتناقضه مع المقاومة التي لا تزال تحظى بدعم جماهير واسع في الأوساط العربية والإسلامية.
قناعاتي انه أصبح لزامًا على حركات الإسلام السياسي أن تتبنى وسائل عمل تحميها من سياسة العزل والإفشال، وهي بناء تحالفات سياسية توافقية إستراتيجية قائمة على برنامج وطني جامع دون التشدد في فرض الأجندة الإسلامية، وذلك من أجل إيجاد بيئة قابلة للتعامل مع الاسلام السياسي كمكون أساسي في العملية السياسية سواء في المعارضة أو الحكم، ودونما أدنى حساسية من أنصار التيار الإسلامي من خسارة الانتخابات في بعض المحطات للجلوس في مقاعد المعارضة، والسعي وفقًا للقوانين للوصول للحكم مرة أخرى دون النظر للمسألة بأن خسارة الانتخابات تعني انفضاض الناس عن الدين او العكس، ويواكب ذلك كله فتح نقاش مع الغرب حول طبيعة العلاقة مع الإسلام السياسي كمنظومة منفتحة على الحضارة الغربية على أساس التعايش الحضاري بين الثقافتين.