أنظر إليه وقلبي يتمزق، لا أدري ما أقول له أو كيف أُمهد لأجعله يدرك ولو شيئاً من حقيقة ما يجري.. أتأمله يجلس لاهياً وكأن الدنيا تدوم أو أن السعادة مقيمة بيننا، في حين أنه لا يعلم ما حُجب عنه في دفاتر الأيام. لا يدري أن سرطان الدم ينهش جسد والدته وأن الموت قد يجتاز بها الطريق إلى العالم الآخر بين عشية وضحاها.. يسألني عنها طوال الوقت، ويلحُّ عليَّ أن آخذه عندها، أقول له إن الطبيب قد منعنا زيارتها، ولكنه يغضب من الطبيب، وكأن المشكلة تكمن في الطبيب نفسه. تساورني مخاوف مرعبة من أن أصدمه إن أخبرته بأن حياة والدته في عين الخطر، فأتسبب له بأوجاع قد يطول أمدها وأخاف أن تبقى ندوبها فلا تزول يوماً، وأزداد خشية في الوقت ذاته من أن يجد نفسه في مواجهة سافرة مع الفقدان، فاقداً كل أسلحته، مجرداً من قوته، ليس بمقدوره أن يناور أو يحاور.. بعد أن يكون كل شيء قد انتهى!
أسأل نفسي: أأتركه يواجه حقيقة أن الحياة قاسية، وأنها لا ترحم أحداً؟ أم أُمنيه بأن معادلته الخاصة ستكون مختلفة، وأنها على أعتابه ستتعاطف وتؤثر أن تكون رؤوفة رحيمة؟ يصعب عليَّ أن أصارحه، وسيكون أشد صعوبة عليه أن يقبل.
لا أدري، هل أُخبره بنفسي أم أدع أي شخص آخر يقوم بهذه المهمة الصعبة؟ هل أُسمي المسميات بأسمائها أم أختار لها أسماء لطيفة تقبلها النفس؟ فهل أُسمي الموت موتاً والاحتضار اقترابًا من الموت أم أبحث لها عن مسميات أُخرى، مثل: ستسافر.. ستذهب إلى حديقة جميلة... إلخ؟
أذكر كيف كانت ردة فعله عندما واجه الموت للمرة الأولى قبل عام تقريباً، حين شاهد هرَّ الجيران "لولو" ميتاً وقد داسته عجلات سيارة في طرف الحي، حمله وأتى به راكضاً إلي قائلا: انظر! ما به؟ لماذا لا يتحرك؟ ما بال رأسه مهروساً مدمياً هكذا؟
ثم أخذ يرفع رأسه وقوائمه ويحاول إقناعه بأن ينهض!
صمتُّ قليلاً وقلت: دعك من هذا.. لقد رحل!
قال متعجباً: وماذا يعني رحل؟ إلى أين رحل؟
قلت: انتهى، لم يعد موجوداً ولن يعود أبداً!
قال: لا لا تقل هكذا.. سيشفى جرح رأسه وسينهض مرة أخرى.. دعنا نأخذه للطبيب ليداوي جراح رأسه.
قلت: من الأفضل أن نترك الحديث في هذا الموضوع الآن.. أنت ما تزال صغيراً. عندما تكبر ستدرك كل شيء بنفسك!
لم أكن أنتبه في ذلك الحين أن الموت يتربص بنا ويرمقنا بطرف عينه وسرعان ما ينقض علينا، لم أعلم أن عليّ استغلال هذه الفرصة لأجعله يدرك هذه الحقيقة الحتمية، كنت شديد الحرص على عدم الحديث أمامه عن أي شيء يتعلق بالموت؛ ظناً مني أن ذلك يحميه من الخوف والقلق، ولكن ثبت لي خطأ وجهة نظري.. فبرغم صغر سنه، كان عليّ أن أُبسِّط له الأمر.. عليه أن يُدرك أن هناك أشياء كثيرة كبيرة جداً، أكبر منا وخارج سيطرتنا، ليس لنا إلا أن نتقبلها باستسلام تام كما هي.. فنحن مضطرون لمتابعة حياتنا برغم الفقدان، لأن الخيار ليس خيارنا.
لذا.. سأخبره بالحقيقة دون مواربة، سَأَعِده بأن أعتني به، وأُقدم له ما بوسعي ليكمل حياته على أكمل وجه، سأحبه كما ينبغي، نعم سترحل والدته ولكني أدعو أن يطيل الله في عمري لأكون سنداً وعوناً له.. فالدنيا لا تنتهي بموت أحد، بل تكمل دورتها وكأن شيئاً لم يكن.
تلازم الموت والحياة منذ بدء الخليقة، كما تلازم الليل والنهار، والصبح والزوال، والبداية والنهاية.. أضداد تكمل دورة الحياة وتثبت أن شيئاً لم يُخلق عبثاً.
فلا تخف يا بني.. هي حياة بأيام معدودة علينا أن نمضيها، ولن نمضي منها إلا بعد أن نكون قد استوفينا حقنا كاملاً منها.