في تفصيل جديد عن مجريات اللقاء الذي جمع محمود عباس مع وزير جيش الاحتلال الإسرائيلي غانتس قبل بضعة أسابيع، أوردت القناة (12) العبرية أول أمس خبرًا يقول إن غانتس عبّر لعباس عن إيمانه بحلّ الدولتين وتطلعه إلى أن يكون رابين الجديد.
ليس معروفًا مدى دقة الخبر ولا مخرجات اللقاء الثنائي ذاك، ولا مدى ضرورة عقده أصلًا، لكن الأكيد أنه كان يكفي أن يسمع مسؤولو السلطة طرفًا من طمأنت إسرائيلية أو حديثًا غائمًا عن حلّ الدولتين حتى يعودوا للمراهنة على إمكانية تحصيل شيء من استئناف مسيرة التسوية والمفاوضات.
ولعلّ المسؤولين الإسرائيليين على اختلاف مواقعهم في المعادلة السياسية باتوا يدركون سرّ النجاح في استمالة السلطة ودفعها للاستمرار في تأدية ما عليها من التزامات، كلما ظهرت بوادر انسداد في الأفق أو جرت تطورات مقلقة على الأرض، فيكفي التلويح بوعود سياسية كاذبة أو تلميحات عن إمكانية حدوث تقدم في مسار التسوية لكي تعود السلطة إلى مربع التعلق بالأوهام والمراهنة عليها.
تفعل السلطة ذلك رغم أنها تدرك أكثر من غيرها أنه لم يبقَ من أدوارها شيء يتجاوز العاملين الأمني والإداري، وأنها ليست فقط إدارة حكم ذاتي محدود بلا سيادة، بل تؤدي فوق ذلك التزامات أمنية كبيرة للاحتلال، يقايض بها الأخير أموال الضرائب التي يحولها إلى السلطة، وتلك التسهيلات الشكلية التي يمنّ بها عليها، وقبل كل ذلك حمايته لوجودها وضمانه لبقائها.
وفقًا لهذا المعنى لا تعود هناك حاجة للتوقف كثيرًا أو قليلًا عند خطاب عباس أمام الأمم المتحدة، فما بدا أنه إمهال للاحتلال بالانسحاب وفق مدة محددة ليس سوى تطور خطابي وشعاراتي آخر للرجل، ولمنظومته التي تتقن التلوّن السياسي بالقدر الذي يتطلبه كل مقام، وما يناسب كل مرحلة، وفي مرحلة التحول الفلسطيني العام عن منهج التسوية والتنازل والمفاوضات، بعد معاينة آثاره ونتائجه، كان لا بدّ من خطاب يبدو مختلفًا ويحسبه الجاهل تطورًا غير مسبوق، في حين هو دوران في حلقة الوهم إياها، ولكن بأقنعة جديدة، وبإخراج مختلف.
لم نعلم بعد، ولن نعلم أبدًا ما الذي تملكه المنظومة السلطوية لكي تلزم الاحتلال بالنزول عند مطالبها السياسية، لأنها ببساطة لا تملك شيئًا من أدوات وأوراق القوة أو الندية في أدنى وأضعف مقتضياتها، بل تزداد حاجتها هي للاحتلال مع الوقت، لحمايته ولقروضه ولتسهيلاته، ولإنقاذها من مختلف مآزقها.
ولذلك كله ينبغي لهذه الشعارات ذات الإخراج الجديد ألا تخدع أحدًا، ذلك أنها لن تمسّ ولو بقدر ضئيل تلك الحقيقة الماثلة الواضحة القائلة إن السلطة تمثل للاحتلال مجرد كيان أمني، ووجوده ضامن استقرار الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية، وعائق أمام التطور النوعي للمقاومة أو التقدم المحدود لها، ووفق هذه المعطيات يقترب أو يبتعد الاحتلال من السلطة، عبر سياسات العصا والجزرة، التي يوظفها بمهارة منبثقة من تجربته الطويلة مع هذه المنظومة، ومعرفته اللصيقة بنقاط ضعفها وثغراتها، وعوامل توظيفها، لكي تظل فقط متحركة ضمن الهوامش المسموحة والمتاحة لها.
في مقابل ذلك إن مسؤولية القوى الفلسطينية الحية تفرض عليها واجبات إضافية تتخلص معها من تعاطيها النمطي مع هذه المنظومة، وأول هذه الواجبات أن تفرض مشاريعها وتختط مساراتها دون انتظار التحاق المنظومة المتهتكة بركبها، أو تخليها عن قناعاتها، فما يكبل هذه السلطة بكل مستوياتها أكبر وأكثر من أن يحررها منه خطاب تحفيزي أو توافق شكلي على مشتركات طفيفة، لا تقدم ولا تؤخر، ولا تضيف شيئًا يذكر لمسار التحرر وأولوية النهوض.