منذ أن نزع قادة منظمة التحرير الفلسطينية ثوب الكفاح ضد المحتل، ولبسوا ثوب السلطة وقدِموا إلى غزة وأريحا، وتسلطوا على رقاب المجاهدين، فقتلوا بعضهم وعذبوا آخرين وسلّموا من تبقى للاحتلال، ظن العالم ومعه دولة الاحتلال أنهم استطاعوا احتواء القضية الفلسطينية، وأن الساحة قد فرغت ليسرحوا ويمرحوا ويتغولوا على الشعب الفلسطيني كيفما يشاؤون، لدرجة أن غرور وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك أرئيل شارون، دفعه إلى الذهاب ليدنس الأقصى في مثل هذه الأيام من عام 2000، اعتقادًا منه أن خطة تدجين الفلسطينيين قد نجحت، وأن الأوان قد حان لاستباحة مقدساتهم بكل أريحية.
فهبَّ الشعب الفلسطيني في وجهه، وأشعل الأرض لهيبا من تحت أقدامه، ومن المكان الذي أمِن الاحتلال منه (السلطة الفلسطينية) التي أنشأها لمثل ذلك اليوم، جاءت الأوامر من رأسها -بعد أيام من فشل محادثات كامب ديفيد- بأن اسمحوا للشعب أن يقاوم المحتل، فكانت انتفاضة الأقصى بركانًا على المحتل، حتى إن عناصر من الأجهزة الأمنية كانوا يشتبكون في بعض المحطات مع الجيش الإسرائيلي، فاضطر الاحتلال إلى أن يقصف المقرات الأمنية للسلطة تعبيرًا عن سخطه من أدائها الذي لم يمنع قيام الانتفاضة، ومنذ ذلك الوقت بدأ التخطيط لإعادة صياغة عقيدة الأمن الفلسطيني من جديد.
مثّلت انتفاضة الأقصى نقطة انطلاق جديدة لفصائل المقاومة التي فُككت بنيتها على مدار ست سنوات (1994-2000) من الاعتقال والتشريد والملاحقة المشتركة من أجهزة السلطة والاحتلال، فشنّت عمليات غير مسبوقة ضد المحتل الإسرائيلي، حتى اضطر إلى إعادة احتلال الضفة (2002) لقربها من الأراضي المحتلة، والانسحاب من غزة (2005)؛ اعتقادا منه أنه يستطيع أن يكبح جماحها بحصار أو بإعادة تموضع للأجهزة الأمنية فيها.
هذه الانتفاضة بكل محطاتها أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أن السلام والمفاوضات مع الاحتلال لن ينتج عنهما إلا مزيد من الوهم، وأنه لا حوار مع المحتل إلا عبر فوهة البندقية، وإليه استندت فصائل المقاومة، ونجحت في مراكمة قوتها في غزة، إلى أن استطاعت أن تهزم الغطرسة الإسرائيلية وأن تضرب عمق المحتل بعشرات الصواريخ في لحظة واحدة.
حتى إن فصائل المقاومة في غزة بدأت تفكر في مرحلة ما بعد التحرير والإعداد لتحقيق وعد الله عز وجل في تتبير علو بني إسرائيل، فأقاموا المؤتمر الاستشرافي لوعد الآخرة الذي سخر منه البعض بأنه أوهام وما إلى ذلك، صحيح أن هذا المؤتمر لن يحرر شبرًا من فلسطين، لكنه يعبّر عن ثقافة جيل جديد من العرب يختلف عن جيل 48 أو 67، جيل يؤمن بحتمية الانتصار على (إسرائيل)، ولا يركن إلى أقوال المثبطين الذين يعيشون تحت البسطار الإسرائيلي.
الاحتلال يرى في هؤلاء الذين يفكرون بمرحلة ما بعد التحرير أنهم أناس ليس في قاموسهم الهزيمة ولا يعرفون الإحباط، ويزرعون في الأجيال بذور الانتصار، لذلك يخشى المحتل تعاظمَ قوة هؤلاء، ويركن قليلًا إلى الأمن الوهمي الذي تصنعه سلطة التنسيق الأمني في الضفة المحتلة.
ولذلك أرى أن تحقيق وعد الآخرة ينقصه حلقة مفقودة، وهي ساحة الضفة الغربية المحتلة التي لا تسير فيها الأمور على ما يرام، فمنذ 2002 حتى يومنا هذا لم ترتقِ أي هبة في وجه المحتل إلى انتفاضة حقيقية، نستبشر خيرًا بصلية رصاص تطلق في جنين أو في نابلس أو في الخليل، بأن ثقافة المقاومة لا تزال موجودة وأنها لم تندثر، لكننا نصطدم بواقع مرير، فهناك سلطة تأتمر بأمر الاحتلال تقطّع معه أوصال الضفة وتمنع معه استمرار أي هبة.
فمن الصعب جدًا -لا أقول مستحيل، لأنه لا شيء مستحيل مع الإرادة القوية- أن تقوم انتفاضة كبرى في الضفة وأن تسير على خطى غزة ما دام على رأس السلطة عباس وفريقه الذين لا يؤمنون مطلقا بالمقاومة المسلحة، لأنهم يعرفون جيدا أنها سبب في إنهاء حكمهم، لذلك يعملون مع المحتل على تجريف الحركة الوطنية وعلى تجفيف منابع التعبئة العامة والسياسية المناهضة للاحتلال، وخير دليل على ذلك ما ارتكبوه من جرائم بحق أهل الضفة، عقب معركة سيف القدس التي مثلت رافعة معنوية للفلسطينيين في الضفة.
وبناء على ذلك، مطلوب من فصائل المقاومة أن تقود الفلسطينيين بشرعيتها الثورية وتمضي قُدمًا نحو وعد الآخرة، ولا تلتفت نحو أمور تحيدها عن تحقيق الوعد، كمهزلة انتخابات أو مصالحة مع مَن لو خرجوا فينا ما زادونا إلا خبالا، وكذلك مطلوب من أهلنا بالضفة إيجاد الحلقة المفقودة المؤدية لتحقيق الوعد، المتمثلة بالثورة على سارقي الثورة، وأن يضعوا في أسلحتهم 10 رصاصات: 9 للخونة، وواحدة للمحتل.