تمر علينا في هذه الأيام ذكريات كثيرة منها السيئة ومنها الجيدة، لعل أسوأها على الإطلاق هي ذكرى توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير ودولة الاحتلال عام 1993، ولعل أفضلها هي ذكرى انسحاب آخر جندي إسرائيلي من غزة عام 2005، في حين أن ما يميز هاتين الذِكرَيَيْن هذا العام أنهما جاءتا متزامنتين مع تنفيذ عملية نوعية كان أبطالها ستة مجاهدين صنعوا مجدهم بأيديهم، وانتزعوا حريتهم بصبرهم، وكأنها جاءت لتربط بين حقوق فرَّقها باطل.
ولو رجعنا إلى عام 1993 لوجدنا أن منظمة التحرير الفلسطينية قد وُعدت بإنشاء دولة يعترف بها كل العالم، وتجمع شمل شتاتهم بعدما حفيت أقدامهم بين عمان وبيروت وتونس، وأن تُغدَق عليهم الأموال والمساعدات، وأن يكون لها شأن في المحافل الدولية، ويكون لها حكومة ووزارات وسفارات وموازنات وبطاقات vip ونثريات -حتى إن أحد قادتها قال يومًا إن غزة ستصبح سنغافورة- مقابل شيء بسيط تقوم به؛ توقيع اتفاق صغير مع دولة الاحتلال، ليصدق فيهم قول الشاعر:
لا بأسَ بالقومِ من طولٍ ومن عِظَمٍ ** جسمُ البغالِ وأحلامُ العصافيرِ
لكن هذا الاتفاق الصغير في حجم ورقته التي وُقِّعت، كان مصيبة وقعت على رأس القضية الفلسطينية، صحيح أنه أُنشئت بموجبه سلطة حكم ذاتي سُمّيت فلسطينية ولها ما يشبه الحكومة، إلا أن مخرجاته تسببت في التنازل عن أكثر من ثلاثة أرباع فلسطين التاريخية، وفي التفريط بحق اللاجئين في رجوعهم إلى أراضيهم، وتسببت أيضا في ترْك الأسرى خلف القضبان -25أسيرًا لا يزالون موجودين في الأسر منذ قبل توقيع الاتفاق-، بل إن الأخطر من ذلك هو ربط مصير تلك السلطة بالتنسيق الأمني الذي فكك النسيج الاجتماعي الفلسطيني فجعل الأخ يقتل أخيه والجار يقتل جاره، لإرضاء سيده الإسرائيلي.
هذا الاتفاق وما تلاه من اتفاقات مذلة كان هدفها الأساسي إغراقنا في البحث عن التفاصيل وأساسيات الحياة كالأكل والشرب والرواتب والكهرباء وغيرها، وإخماد ثورة الشعب الفلسطيني وإبعاده عن مبادئه وثوابته، حتى يستفرد الاحتلال بالقدس وبالأسرى والمقدسات، إلا أن الشعب كان له رأي آخر، فلم يرضَ الدنية، وانتفض نصرة للأقصى عام 2000 وقاوم بسلاحه حتى أخرج الاحتلال من غزة في 2005 وأعوانه في 2007، وبينهما اختطف شاليط في عملية نوعية في 2006.
فانسحاب الاحتلال من غزة لم يكن ثمرة تنسيق أمني ولا كان باتفاق وقّعه مع السلطة، بل خرج صاغرًا تحت ضربات المقاومة وأنفاقها بعد أن كان شارون يتفاخر بأن نيتساريم كـ (تل أبيب) لأهميتها لدى دولته اللقيطة، ليكون أول نتائج المقاومة المسلحة التي تخلى عنها فريق أوسلو الذي لم يجنِ من ذاك الاتفاق إلا ملعقة ذهب وبطاقات vip -لبعض المتنفذين- مغمّسة بسواد الوجه والخيانة التي لم تعد مقتصرة على وجهة نظر كما كان يخشى مقاتلو المنظمة الأوائل.
صحيح أن الاحتلال يفرض على قطاع غزة حصارًا مشددًا، ويشن عليه حربًا تلو حرب بسبب تمسكه بسلاحه وبمقاومته، إلا أنه لا يزال مرفوع الرأس ويسجّل نصرًا وراء نصر، وبدأ يجني ثمار صبره وجهاده، وما تغيير الاحتلال خططه تجاه غزة التي كان آخرها اقتراح نائب رئيس حكومة الاحتلال يائير لبيد، الذي اقترح خطة تشمل تأهيل البنى التحتية وتحسين اقتصاد غزة مقابل الأمن، إلا خير دليل على أن الاحتلال قد يئس من هزيمة المقاومة، وباتت أقصى أمنياته منْع تعاظم قوة حماس ومساعدة السلطة على البقاء، بعدما أيقن أن الحرب باتت "حلًّا سيئًا" مع غزة، وفق قوله.
ومن ثمرات صبره وجهاده كذلك، أنه أجبر الاحتلال على الرضوخ لمطالب المقاومة في صفقة وفاء الأحرار التي جاءت تتويجا لعملية طويلة بدأت بحفر الأنفاق وانتهت بخروج الأسرى، كما فعل بالضبط محمد ومحمود عارضة ورفاقهما في عملية نفق الحرية عندما حفروا نفقهم بالملاعق وانتزعوا حريتهم من أشد السجون تحصينًا، ليطبعوا وصمة عار تاريخية على جبين دولة الاحتلال، حتى وإن أعاد اعتقال بعضهم، فيكفيهم أنهم سجلوا أسماءهم في تاريخ القضية، وأن القسام زيَّن أسماءهم على رأس قائمة صفقة "وفاء الأحرار 2".
هذه العملية البطولية جاءت في خضم تصاعد كبير للعمليات العسكرية ضد الاحتلال في الضفة وغزة، لتعكس تبنّي الشعب الفلسطيني خيار المقاومة بكل أشكالها، في وجه اتفاقية أوسلو وإفرازاتها، ورفضهم عمليات التسوية والمفاوضات مع الاحتلال الإسرائيلي، التي تنتهجها السلطة وقيادتها، فعلينا بصفتنا شعبًا تحت الاحتلال أن نؤرّخ إنجازات المقاومة المفصلية ونحوّلها إلى مناسبات وطنية جامعة، تحافظ على وعي الجمهور والتفافه حول مشروع المقاومة، حتى تعرف الأجيال أن ملعقة الرمل تصنع مجدًا، وأن ملعقة الذهب إن كانت مغمسة بالخيانة تصنع ذلًّا.