على حوافّ الحدث الأكثر إثارةً في الأيام الماضية، يمكننا وضع بعض النقاط على حروفٍ تحللت بفعل المفاجأة، أو ربما نتيجة ضبابٍ في الرؤية، أو كثرة المحبطات والانهيارات التي أصابت فلسطين وقضيتها، فيما بدا أنه قاعٌ وصلت إليه بعد قيعانٍ كثيرة، كنا نظن أنها ستكون الأخيرة، ليتبين لنا أن قيعانًا أخرى قادمة.
نفق الحرية الذي لم يحفر فقط أسفل معتقل جلبوع، بل في عمق الوعي الصهيوني؛ شكّل حدثًا مزلزلًا، حتى مع إعادة أربعة من مقاتلي الحرية الستة إلى المكان الذي انتزعوا منه حريتهم، ربما لم يبالغ رامي عفوديا، المسؤول السابق في مصلحة السجون الصهيونية لإذاعة كان، حين قال: "إن نجاح الأسرى الفلسطينيين في الهرب من سجن جلبوع يشبه فشل (إسرائيل) في حرب 73"، وربما تكون هذه العبارة أكثر تهذيبًا مما قاله خبير صهيوني، لم تذكر الأخبار اسمه، ربما لفداحة التعبير، إذ قال: "ما حُفِر ليس نفقًا في الأرض بل في مؤخّرتنا".
ربما تكون هذه التعبيرات الأكثر تكثيفًا للصدمة التي حدثت في كيان العدو، وفي المقابل مسّ الحدث الجلل عصب الكرامة المجروحة للفلسطيني، فكهربته بشحنةٍ نوويةٍ من الشعور بالفخر والزهو والكبرياء، إذ شعر الشعب كله بنشوة انتصارٍ كان بحاجة ماسة لها، وهنا لا بد من ملاحظة، فقد وحّد هذا "الانتصار" على المنظومة الأمنية للعدو كل الشعب، وهدَم كل الحدود والحواجز التي صنعتها السياسة والأيديولوجيا وسنوات الاحتلال الطويلة، وتلك واحدةٌ من خيرات المقاومة الكثيرة، ومؤشّر يدلّنا ببساطة على كيفية هدم الانقسام واندثاره، الذي أريد له أن يكون معول هدم في الجسد الفلسطيني، ولعل هذا يجيب عن سؤالٍ غدا أزليًّا، عن كيفية توحيد الشعب وإزالة الانقسام، إنه بلسم المقاومة.
في مسألة تشخيص حالة الحزن التي أصابتنا، بعد إعادة أربعة من مقاتلي الحرية إلى الأسر، لا بد من استحضار حقيقةٍ قد تغيب عن الذهن، في ذروة الانفعال، فحين ينتزع أسيرٌ حريته من سجنٍ يشبه القلعة في تحصينه، وحين يخترق بضعة رجال منظومة أمنيةً متطوّرة وصلبة لكيانٍ عاتٍ، فهي بكل المقاييس صفعة مدوية ولطمة مهينة، أما حين تعيد أجهزة الكيان اعتقاله فهذا ليس شيئًا يذكر، لأن فرق الإمكانات المهول بين الأسير الواحد والدولة المدجّجة بالأجهزة والأسلحة (وقصّاصي الأثر) يجعل الأمر أشبه بجيشٍ ضخم، يواجه مقاتلًا أعزل، وضمن هذا السياق نقرأ "الإخفاق" في حفاظ الأسرى على حريتهم التي انتزعوها، فهو في حقيقته سلوكٌ بشري محض، قابله في بداية الحدث اختراقٌ عظيم، يمحو أي ضعفٍ يتلوه، وما أجمل ما قيل: الستة هزّوا كيانًا من ستة ملايين، فالواحد بمليون، هي معادلة العصر الفلسطيني الجديد، بغض النظر عن مآلات الحدث الذي حقق هدفه.
أما فيما يخصّ حرب الروايات التي سردت وقائع الحدث، وصراع "الحقيقة" في كل ما قيل، فثمّة كثير مما يقال، خصوصًا أن العدو انفرد في سردية الحكاية، فكان المصدر الوحيد لما يجري جهاز الأمن الصهيوني، وما يسمح ببثه عبر وسائل إعلامه، بعد فرضه طوقًا صارمًا من السرّية على مجريات الحدث.
في قصة وجود الحاضنة الشعبية للأسرى الذين انتزعوا حرّيتهم بدا أن بعضهم حاول تصوير الشعب الفلسطيني كأنه من صنف فريد من البشر، فلسطينيو الداخل الفلسطيني مثلًا لم يكونوا ملائكةً في أي وقت، فمنهم المجنّدون في "جيش الدفاع!"، ومنهم المختصون في تعذيب المعتقلين، ومنهم قصّاصو الأثر، وهؤلاء أخطرهم، فقد لعبوًا دورًا حاسمًا في تعقب آثار الأسرى الذين انتزعوا حريتهم، ومنهم مجرمون أعضاء عصاباتٍ يقتلون إخوانهم لأسبابٍ إجراميةٍ بحتة، والعنف المجتمعي المتفشّي في أوساطهم غدا سرطانًا خطرًا لا تُخطئه العين، وهو جزءٌ من الحرب التي يشنها الاحتلال على هذا الشعب، إذ يسهل تزويد هذه الفئة بالسلاح والمخدّرات، الشعب الفلسطيني كغيره من الشعوب فيه الصالح والطالح.
أيام الاحتلال النازي لفرنسا اعترفت حكومة فيشي، تحت قيادة الجنرال بيتان، بالاحتلال النازي وتعاونت معه، ولم ينتقص هذا من قيمة المقاومة الفرنسية التي تصدّت للاحتلال النازي، بمعونة الحلفاء، بمعنى آخر ليس الشعب الفلسطيني خارج قوانين الطبيعة، ففي كل شعبٍ بقع سوداء، ولمن لا يعلم: أهم جهاز أمني ساعد على الوصول إلى الأسرى الذين أعيدوا إلى الاعتقال كان جهاز قصّاصي الأثر، المسمّى "مرعول"، وجسمه الأساس يقوم على قصّاصي أثر فلسطينيين من صحراء النقب، بل يقال إن هذه الوحدة أقيمت عام 1970، وصاحب فكرة تأسيسها هو المدعو عاموس يركوني، وهو ليس يهوديًّا، كما يعتقد بعضهم للوهلة الأولى، بل هو بدوي اسمه الأصلي عبد المجيد خضر المزاريب، وقد اختار لنفسه اسمه اليهودي ذاك، أما الشخص الثاني الذي يعد من مؤسسي هذه الوحدة فهو البدوي حسين الهيب الذي تدرّج في خدمته في جيش العدو، حتى حصل على رتبة عقيد، ولهذا لا عجب إن لقي العدو معونةً من جواسيس ضعاف نفوس ومنتفعين، ولا يعيب فلسطين وشعبها وجود أنذال وعسس يخدمون الاحتلال.
المهم أن أسرانا الأحرار سجّلوا ما عليهم من بطولة، وتمكّنوا من إهانة منظومة الاحتلال والانتصار عليها، ووددنا لو تمت خطتهم بالخلاص، لكن الباقي على أمة المليار ونصف المليار نسمة، إلى هذا وذاك، فلسطين مساحتها صغيرة، ولا غابات أو مناطق جبلية شاسعة للاختفاء فيها، يحتلها عدو متقدم تقنيًّا وعملياتيًّا، ولهذا لم يكن غريبًا أن تنتهي عملية انتزاع الحرية في جزء منها إلى ما انتهت إليه.
في النهاية حين تنتصر "دولة" على فرد أو أفراد فهذا طبيعي، أما حين "ينتصر" فرد على دولة فتلك هي المعجزة، وقد حقّق الستة معجزتهم، وأعادوا وضع قضية الأسرى التي كثيرًا ما تُنسى على رأس الأولويات الفلسطينية، وتمكّنوا من وضعها في مقتبل كل نشرات الأخبار، وأضحت الشغل الشاغل لمنصّات التواصل الاجتماعي.
بقيت إضاءة على السجن الذي تردد اسمه آلاف المرّات، وأملًا في إزالة مسحة التهويد للمكان نقول إن جلبوع اسم عبري أطلق على مرتفعات بلدة فقّوعة، القرية الوادعة في الشمال الشرقي من مدينة جنين، ومن أشهر ما يميز هذه القرية نبتة "سوسنة فقّوعة"، التي اعتُمدت نبتة وطنية لفلسطين، وهي نادرة على مستوى العالم، تتميّز بلونها البنفسجي، ولا تنمو إلا في تلك المنطقة، ولهذا يحق لنا أن نسمّي النفق والسجن تيمنًا بهذا الاسم: نفق سوسنة فقّوعة، النفق الذي حفره الأبطال، ليصلوا إلى سوسنة الحرية، وقد فعلوها.