تحتفظ ذاكرة الإنسان عادة بالمشهد الأخير من كل شيء، فيتكثّف أثره فيها سلبًا أو إيجابًا ويمتد، حتى يحلّ مكانه غيره، وكان هذا حال كثيرين ممن أفجعتهم عملية إعادة اعتقال الأبطال المتحررين من سجن جلبوع، رغم أن اعتقالهم كان متوقّعًا نظرًا إلى تعقيدات البيئة التي تحرروا فيها وصعوبة البقاء فيها دون انكشاف، خصوصًا أن ما رشح من معلومات حتى الآن يقول إنهم لم يخططوا لعملية الهروب بالتعاون مع طرف خارجي، ما يعني أنه لم تكن لديهم خطة أو تصور واضح عن مرحلة ما بعد التحرر.
في كل الأحوال إن إعادة اعتقالهم لا تقدح في الثمن الرمزي العالي الذي سجلته عمليتهم، وهو أمر تحدث عنه كثيرون، من حيث تفوقهم على منظومة أمنية كاملة تمثل آخر ما توصل إليه كيان الاحتلال في تقنيات التحصين والمراقبة والحراسة، وتأمين المنشآت التي يحتجز فيها الأسرى الفلسطينيين من فوق الأرض وتحتها، ومن داخلها بآليات التفتيش اليومية الدقيقة.
سيمرّ وقت طويل قبل أن تتخلص المنظومة الصهيونية بجميع مستوياتها من عار هزيمتها أمام إرادة ستة من الأسرى، أوقعوا بها هذه الهزيمة وهم رهن القيد وفي عزلة عن العالم الخارجي، وبأدوات بسيطة، يتراكم أثرها مع الوقت الطويل والجهد الحثيث والصبر المضني، ومع الكثير من الاحتياط واليقظة والفطنة، والمعالجة الاستباقية للثغرات التي كان يمكن أن تفضي إلى انكشاف خطتهم، إنما في النهاية سيسجل التاريخ في سفر المقاومة الفلسطينية بصمة فخار عميقة، وعلى جبين المشروع الصهيوني وصمة عار أبدية، حتى مع اعتقال المتحررين، بعد أن تجندت دولة كاملة لملاحقتهم ووظفت كلّ إمكاناتها لهذا الغرض.
تعيدنا هذه الحادثة إلى عملية أسر المستوطنين الثلاثة في الخليل عام 2014، من واحد من أحصن المربعات الأمنية الصهيونية الاستيطانية، وهو مربع عصيون، شمال الخليل، إذ كان مجرد حدوث عملية كهذه في بيئة مكشوفة ومحاصرة ومراقبة يعدّ معجزة قائمة بذاتها، بغض النظر عن نتائجها، فكيف وقد احتاج جيش الاحتلال عشرين يومًا حتى عثر على جثثهم، وثلاثة أشهر حتى وصل إلى المنفذين واغتالهم؟! فالضفة الغربية ليست غزة التي يختفي فيها جنود الاحتلال المأسورون في عمليات المقاومة إلى حين إنجاز عمليات التبادل، ويأمن فيها المقاومون على حياتهم وأسرار تجاربهم، الضفة الغربية مستباحة أمنيًّا حتى النخاع، وكل شبر فيها مراقب ومرصود ويسهل وصول جيش الاحتلال إليه، ما يعني أن وزن أي عملية مقاومة فيها ثقيل وعظيم، في ذاتها وفي ظروف إخراجها وفي إيقاعها هزيمة أمنية بالمنظومة الصهيونية.
وفي أحداث من هذا الطراز، وفي بيئة صعبة، يصبح المهم دائمًا الوقوف عند الدروس التي تكتنف هذه العمليات، وعند أثرها في الوعي الفلسطيني، وفي معادلة الصراع، وكيف تطيح بانتفاشة المحتل وتكسر هيبته وتعظيمه لذاته وقدراته، لكنّ من ألفوا المشاهدة من بعيد، والتعليق وتوقّع المستحيلات والنهايات الأسطورية؛ يتوقعون أنهم يجب أن يشاهدوا معجزات متواصلة تجنبهم خيبة الأمل، كحال من ينتقد نهاية غير محبذة لفيلم درامي سينمائي، طارحًا سيناريوهات مثالية للنهاية.
لكنّ الدروس المستقاة من هذه العمليات الفذّة تقول شيئًا آخر، تقول إن قيمتها في حدوثها، ضمن ظروف منهكة ومعاكسة للفعل، وإنه ينبغي ألا نزهد في أثرها إن كانت نهايتها اعتقال أو اغتيال أبطالها، فهذه مسيرة كفاح طويلة، فيها خسائر وآلام وتضحيات، وفيها لحظات بهجة وانتصار تتجلى مع صنيع السواعد المقاتلة، لكنّ المهم ألا تسكن محاولات النهوض، وألا تسكت في نفوس أصحاب الواجب نداءات التحرر، التحرر من الظروف المقيِّدة والمعيقات الكبيرة، حتى لو تطلّب الأمر مغالبة الركام وثقب الجدر الحصينة، فشرف المحاولة خير من عار الانسحاب والتسليم، فهذا الأخير يستجلب مزيدًا من الظلام إلى آفاقنا، في حين تصنع المحاولة في الغالب ذاكرة جديدة، تتراكم فيها معانٍ عالية، تستحثّ في الوعي نداء الحركة، وضرورات التغيير.