أثار تحرر الأسيرة الفلسطينية الحامل أنهار الديك من سجون الاحتلال قضية جدوى التضامن الشعبي مع الأسرى، ومدى أثره وإسهامه في الضغط باتجاه تحريرهم، وطرَح تساؤلات عن الممكنات المتاح للجمهور خارج السجون أن يتحرك في نطاقها، في جزء من واجبه التضامني مع الأسرى، وتفاعله مع قضيتهم.
في حالة المحررة أنهار الديك لا بد من إدراك مجموعة العوامل التي ساهمت في تحريرها، وهي حامل في شهرها الأخير، وكان قد مضى على اعتقالها نحو ستة أشهر، إذ إن خصوصية وضعها لعبت دورًا مهمًّا في الأمر من حيث حملها من جهة، وكونها غير محكومة من جهة أخرى، وهما عاملان استندا إلى تحرك قانوني قوي في متابعة ملفها من محاميها، إضافة إلى التضامن الواسع مع قضيتها وإثارتها لدى الرأي العام، وكل هذه العوامل مجتمعة أفضت إلى تحررها قبل أن تضع مولودها داخل السجن، وجنّبتها المعاناة المترتبة على ذلك.
بموازاة ذلك، يشخص تساؤل مهم عن تقصير الدور الرسمي الفلسطيني، أي السلطة، في متابعة الحالات الخاصة من الأسرى، التي يمكن تحقيق إنجاز فيها، بإدارة قانونية وسياسية ناجعة لملفها، وإثارة قضيتها دوليًّا، كحالات الأسرى المرضى، والأسيرات، خصوصًا الأسيرة المقدسية إسراء الجعابيص، التي مضى على اعتقالها نحو ستّ سنوات، أي أكثر من نصف المدة المحكومة بها، البالغة أحد عشر عامًا.
بمعنى أن الوضع الصحي السيئ الذي تعيشه إسراء، وحاجتها الملحّة للعلاج، إضافة إلى قضائها أكثر من نصف مدة حكمها، من الأمور التي يمكن أن تساهم في تحريك إيجابي لملفها قد يفضي إلى الإفراج عنها، لو تعاملت السلطة بجدية مع هذا الملف، بعيدًا عن الآليات الشكلية التي اعتادت أن تتعامل بها مع ملف الأسرى.
فالأدوات التي تملكها سلطة تُقدم نفسها ممثلةً للفلسطينيين في المحافل الدولية ليست مثل أدوات التنظيمات ولا أدوات المواطنين، وإن كان يُنتظر من عموم الجمهور أشكال تضامن فاعلة وجدية أيضًا وفقًا لأدوات الضغط والقوة التي يمتلكها، غير أن السلطة تملك أن تقدم للأسير أكثر من مجرد الرعاية المالية لأسرته، خاصة إن كان يعاني في سجنه وضعًا صحيًّا خاصًّا، ويكفي أن نتذكّر أن المفاوض الصهيوني كان قد جهّز نفسه واستعد لقبول الإفراج عن جميع الأسرى الفلسطينيين في مفاوضات أوسلو، وفاجأه أن المفاوض الفلسطيني لم يطالب بذلك، تكفي هذه الحادثة لكي ندرك أن تحرير الأسرى لا يشكّل أولوية لهذه السلطة منذ نشأتها.
أما التفاعل الشعبي مع قضية الأسرى -خصوصًا المرضى والمضربين عن الطعام والأسيرات- فمجاله واسع ومتعدد المسارات، إنما لا يصح الاعتقاد أن التفاعل الإلكتروني وحده هو العامل الكافي والمجدي لأداء الواجب تجاه الأسرى، فالتحرك الميداني ينبغي أن يتقدم على جوانب التفاعل الأخرى، على أهميّتها، وكلما كان التحرك الميداني كثيفًا وواسعًا ومتواصلًا أمكن استثمار جدواه استثمارًا أفضل مما لو كان متواضعًا وخجولًا، خصوصًا إن تحول إلى عامل ضاغط على الاحتلال وأشعره بجدية الجماهير في مطالبها واستعدادها للتضحية في سبيل تحرير أسراها، ونستذكر هنا التظاهرة الحاشدة التي نظمت بمدينة الخليل في أواخر عام 2015 للمطالبة باسترداد جثامين الشهداء المحتجزة لدى الاحتلال، وأفضت إلى إفراج الاحتلال عن عدد منها، فقوة وفاعلية هذه التظاهرة كانتا في حشدها الواسع والمتنوع، ثم في وصولها إلى نقطة تماس مع الاحتلال بأعداد كبيرة، وهو ما أرغمه على الامتثال لجزء من مطالب التظاهرة.
تستمدّ كل قضية قوّتها وحضورها وألَقها من حجم حضورها في وعي وتفاعل أهلها، وتموت ويطويها النسيان بتناسيهم إياها وزهدهم بواجباتهم تجاهها، وحين تكون القضية محورها الإنسان، مثل قضية الأسرى، يصبح الواجب المطلوب بذله تجاهها مضاعفًا، فحتى لو لم يؤدِ التفاعل معها إلى تحرير الأسير، فإنه على الأقل يبقي هذه القضية حية في وعي الناس واهتمامهم ومتابعاتهم، ويسند ذويه معنويًّا، ويشيع في المجتمع قيمة التضامن والتكافل، ويحمل للأسير في سجنه رسالة مؤازرة عميقة الأثر، تشعره أنه ليس وحيدًا في مأساته أو في معركته مع سجانه.
لا راحة في الأوطان المحتلة قبل بلوغ هدف التحرير، وحين يتوزع الواجب على المجموع يغدو هيّنًا، أما أن تحمله الندرة المضحية، وتضن عليها البقية بالنصرة والإسناد والتضامن؛ فهذه معادلة غير سوية، تجهض روح الإقدام، وتشيع اليأس والانسحاب، وتسلب كل القضايا بريقها ومعناها.