الناظر إلى واقع التجربة النضالية في طريق التحرُّر من الاحتلال الإسرائيلي يجد أن لا هدوء طويل المدى معه، وأن حالة الاشتباك بكل وسائله هي الحالة السائدة، أما الهدوء فهو حالة استثنائية، وعليه يجب أن يتمترس إصبع الثائر على الزناد، وهذا ما ترجمه الأبطال في مخيم ملكة شرق غزة، وفي خان يونس أول أمس.
فتحت عنوان "سيف القدس لن يُغمد" انطلق الأبطال في ذكرى إحراق المسجد الأقصى ليكونوا على موعد مع مقارعة الاحتلال، ومن بينهم خرج البطل المجهول بمسدسه ليرد على جريمة الاحتلال الذي تعمّد جنوده إطلاق النار المباشر على المتظاهرين السلميين، ليستل ذاك البطل سيف القدس ويشفي غليل ملايين الفلسطينيين والعرب والمسلمين، الذين شاهدوا مقطع الفيديو وهو يفرغ رصاص مسدسه في رأس القناص المجرم.
تلك العملية البطولية -وإن كانت فردية- هي رد طبيعي على جريمة الاحتلال بحق المتظاهرين السلميين، وتعطي إشارة بدء لمرحلة جديدة من المواجهة، أن الرصاص لا يقابل إلا بالرصاص ولا يفل الحديد إلا الحديد، في المقابل إن فصائل المقاومة كانت تعي جيدًا أن تسخين الحدود مع الاحتلال لن يمر دون تضييق فوق التضييق، لكنها أصرت أن تحاول انتزاع حقوق شعبها، ولو بالقوة.
فعملية قنص القناص خاصة والأوضاع الساخنة على حدود القطاع عامة ستلقي بظلالها على جدول أعمال رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيت، الذي يغادر في هذه الأوقات إلى الولايات المتحدة لبحث أمور من المفترض أن تكون إقليمية بعيدًا عن غزة ومشاكلها، لكن قادة الفصائل في القطاع يبدو أنهم قد فهموا لعبة السياسة الدولية جيدًا، فقرروا وضع قضية حصار غزة وإعادة إعمارها في ملعب أمريكا، لأن المجتمع الدولي من طبعه لا يهتم بالمناطق التي يسيطر عليها الهدوء، ولا يتحرك إلا إذا فقدت المنطقة ذاك الهدوء.
ولأن حالة الاشتباك معقدة في غزة وخياراتها محدودة يحاول الاحتلال استغلال هذا الأمر من كل الجهات، من أجل التضييق على المقاومة وحاضنتها الشعبية، فتارة يشن الحرب ويصعّد، وتارة يغلق المعابر ويمنع التصدير والاستيراد لوقف الحياة في غزة، وتارة يسلط السلطة الفلسطينية على غزة، ويجعلها حجر عثرة في موضوع المنحة القطرية ووقود محطة التوليد، كل هذا له عنوان واضح، وهو تدفيع غزة ثمن رفع السلاح بأي وسيلة كانت.
أما غزة ومقاومتها وفصائلها فلا شك لن تقف مكتوفة الأيدي لانتزاع حقوقها، وتحاول أن تقف صامدة في مواجهة الاحتلال، غير أنها اصطدمت بواقع فُرض عليها بأن ظاهر نضالها ومقاومتها كان من أجل تسهيلات هنا وهناك وفتح معبر وإدخال بضائع بدل أن يكون عنوانه القدس والأقصى، لذلك كان لزامًا على فصائل المقاومة أن تفكر "خارج الصندوق" كي تخرج من هذه الدائرة التي وُضعت فيها.
فالأمل مقطوع من السلطة أن تعود لوعيها وأن تهتم بمصلحة شعبها الذي ذاق الأمرين منها، بالضفة التي تمارس فيها بلطجة الاعتقال والاعتداء السياسيَّين على كل من يعارضها، فكانت آخر صيحة لها اعتقال الناشط فادي القرعان والتحقيق معه في حيازة أعلام فلسطين، ما جعل عضو الكونجرس الأمريكي من أصل فلسطيني رشيدة طليب توجه رسالة شديدة اللهجة لرئيس السلطة عباس، مفادها: "عار عليك أن تقمع الأصوات الفلسطينية، والذين يحاولون الحصول على الحرية ليس فقط من حكومة الفصل العنصري الإسرائيلية، ولكن أيضًا من قيادتك الفاسدة"؛ وفي غزة، التي تمارس عليها الكثير من السياسات العقابية بدءًا من قطع الرواتب، وليس انتهاء بدورها في منع إدخال المنحة القطرية.
ومن جهة أخرى قد فاجأ وزير التعاون الإقليمي في حكومة الاحتلال، عضو الكنيست من فلسطينيي الـ48 عن حزب ميرتس، عيساوي فريج، بتصريح قال فيه: "إن هناك حاجة للحديث مع حركة حماس، مباشرة، وليس من تحت الطاولة، خيار الدخول في حملة عسكرية مع حماس وقطاع غزة يجب أن يكون الملاذ الأخير ... ونحن بحاجة لفهم كيفية تفكيك الضغط الحالي في قطاع غزة، والتفكير بشجاعة "خارج الصندوق" وفهم كيفية حل الأمور".
هذا التصريح إن خرج من وزير "لا يهش ولا ينش" في سياسة دولة الاحتلال؛ فإنه يحمل رؤية ربما تُطرح داخل أروقة صناع القرار في هذه الآونة، ومن الممكن نضوجها في المدة المقبلة لطرحها رسميًّا عبر الوسطاء.
وبين هذا وذاك يبقى الخيار الأقرب للواقع هو التوجه جنوبًا نحو مصر التي تملك مفاتيح المنفذ الوحيد إلى العالم الخارجي، ولكن بأفكار وأدوات وسياسات من "خارج الصندوق" باستخدام أوراق الضغط التي نملكها.