في هذه الأيام يحيي الإسرائيليون الذكرى السنوية السادسة عشرة للانسحاب من قطاع غزة، ما يسمونه خطة "الانفصال الأحادي الجانب" في 2005، وهي مناسبة لاستخلاص الدروس والعبر منها، وتلمس الأخطاء التي رافقت تنفيذها، وحجم تأثيرها السلبي في صورة الردع الإسرائيلي أمام أعدائهم.
في إطار إحياء الإسرائيليين هذه المناسبة يمكن شرح أبرز انعكاساتها على المجتمع الإسرائيلي من النواحي السياسية والأمنية والأيديولوجية، نظرًا إلى هذه الخطة من أهم وأخطر الأحداث في تاريخ دولة الاحتلال، على الأقل وفقًا لتعبيرات أوساط سياسية وعسكرية إسرائيلية واسعة، لأن الحكومة اتخذت قرارًا تاريخيًّا هو الأول من نوعه منذ حرب 1967 بانسحاب أحادي الجانب من مناطق محتلة، دون اتفاق ولا شروط مع الفلسطينيين.
ومما جعل من الخطة تحولًا إستراتيجيًّا ومفصلًا محوريًّا في السياسة الإسرائيلية أن القائمين عليها، ساسة وعسكرًا، "خرقوا" عددًا من الأركان الأساسية في النظرية الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، ومنها الانسحاب من أرض محتلة دون اتفاق، بعكس النظرية السائدة في (إسرائيل) منذ عقود، والقائمة على مبدأ "الأرض مقابل السلام"؛ والانسحاب المفاجئ من غزة، دون مقابل.
أكثر من ذلك، فقد غاب الاعتبار الأمني في الانسحاب من القطاع، لا سيما المواقع الحساسة على الحدود المصرية مع غزة، وتلاشي الأهمية الإستراتيجية للاستيطان اليهودي في القطاع وشمال الضفة الغربية، خاصة من النواحي الأمنية والصهيونية، مع العلم أن هذا الانسحاب جاء بعد خمس سنوات من المواجهة القاسية عبر انتفاضة الأقصى، ما شكل التعبير الأكثر وضوحًا عن فشل "إدارة حل الصراع" القائم بين الطرفين منذ عقود طويلة.
لعل ما يمنح الانسحاب الإسرائيلي من غزة في ذكراه السادسة عشرة أنه يحمل معاني تاريخية ودلالات إستراتيجية، ومن أهمها أن الزعيم الذي بادر إلى إعلانه، وأشرف على تنفيذه كان "شارون" الملقب بـ"أبي الاستيطان"، ما دل على تحولات مفصلية في الخطاب السياسي والنظرية الأمنية لـ(إسرائيل).
لقد زادت خطة الانسحاب من غزة من أوجه الخلل الإسرائيلية في النظر إلى الاستيطان، وزادت رقعة هذا الخلل بإخلاء مستوطنات يهودية كانت إلى أمد قريب مكونًا رئيسًا في هوية (إسرائيل) الدينية والقومية، باتفاقيات سلام ثنائية مع دول عربية، وانسحاب أحادي الجانب دون اتفاق أو شروط، ما وجده جمهور اليمين وعموم المستوطنين مسًّا خطرًا بمبدأ "سلامة الأرض" اليهودية.
تسببت خطة الانسحاب من غزة في نشوء نزاع حقيقي بين منظريها ومؤيديها من جهة، الذين رأوها مقدمة طبيعية للحفاظ على (إسرائيل) دولة يهودية خالصة؛ ومعارضيهم من جهة أخرى، الذين عدّوها تهديدًا جديًّا للمبادئ التي عاشوا في ظلها عقودًا طويلة.