أيام ثلاثة من حريق ضخم اندلع في أحد جبال القدس من الناحية الغربية، وسارع إلى الامتداد لغيره، نيران مجنونة شرعت تلتهم أشجارًا حرجية ضخمة كانت تغطي تلك الجبال: أشجار صنوبر وسرو بأنواعها المختلفة، ونعلم جيدًا أن القدس تقع على منطقة جبلية هي الأعلى ارتفاعًا في فلسطين، حيث جبل النبي صموئيل هو الأعلى بينها.
سارعت طواقم الإطفاء للمحتلين في عربات وطائرات، وعملت طوال الوقت بمساعدة بعض الدول حتى خمدت النيران، ولكن تحت الرماد وبقايا الغطاء النباتي المحترق تكشَّفت ظاهرة لافتة جذبت انتباه الجميع، وأخذوا يتحدثون عنها ويعلِّقون عليها، وضجت بها وسائل التواصل الاجتماعي.
إنها ظاهرة السلاسل الحجرية السندية على منحدرات جبال القدس التي تظهر كأنها مدرج بُني بعناية. السلاسل السندية، أو السلاسل الحجرية، أو الرباعات الزراعية، أو الحبلات، أو السناسل، أو المصاطب الزراعية ... أسماء مختلفة لشيء واحد، وهي تلك الحجارة التي استخرجها الفلاح الفلسطيني من داخل الأرض وصفّها على مدى عقود طويلة بعضها فوق بعضٍ بيديه وعرقه؛ ليوفر مساحة مستوية من الأرض فيها من التربة ما يكفي ليتمكن من زراعة المنحدرات الصخرية الشديدة الانحناء بالزيتون، واللوزيات، وأشجار الكرمة، والقمح والشعير أيضًا.
والسلاسل السندية ممارسة شائعة في كثير من دول العالم التي تمارس الزراعة على سفوح الجبال، حيث تعمل سلاسل بارتفاع منخفض، متر أو أكثر قليلًا، من حجارة متقاربة في الحجم تثبت بعضها فوق بعضٍ بشكل طولي ينتشر على منحدر الجبل أو التلة.
والهدف منها هو حفظ التربة من الانجراف نتيجة الأمطار والرياح، تظهر السلاسل الحجرية على الجبال المرتفعة في فلسطين مثل جبال الخليل والقدس ونابلس والناصرة، لكن معالمها واضحة بشكل كبير في القدس، حتى إنها لتبدو مثل مدرَّج يتصاعد للأعلى بأناقة ونظام.
ولما المحتل طوال الوقت يصرُّ على تزييف الحقيقة، ويصمم على خلق واقع جديد يتناسب مع ما يريد الوصول إليه؛ فما إن وقعت القدس تحت الاحتلال حتى اقتلع المحتل الصهيوني الأشجار، واستبدل بها حرجيات نمت بكثافة وغطت معالم الأرض الخيِّرة التي ارتوت من عرق الفلسطيني ودمائه، وأخفت معالم قرى فلسطينية وبلدات دمرها الاحتلال وهجَّر أهلها قسرًا، ومنها ما أباد أهلها بمجازر تطهير عرقي.
سكن اليبوسيون ذوو الأصول الكنعانية هذه الجبال وأقاموا فوقها مدينتهم الأولى وعاصمتهم يبوس، التي اجتذبت بقية الأمم التي أخذت تتصارع لمحاولة السيطرة عليها وحكمها، فوقعت تحت الحكم الفرعوني قرنين من الزمان قبل الميلاد، ثم حكمها اليهود مدة 73 سنة على يدي نبي الله داود ونبي الله سليمان، ثم احتلها الملك البابلي نبوخذ نصر وسبى اليهود وأسرهم إلى بابل، ثم حكمها الفرس واليونان والرومان.
وفي العهد الروماني ولد نبي الله عيسى في القدس، ودخل الرومان في المسيحية، وعاد الفرس لحكمها مرة أخرى قبل قدوم سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) في رحلة الإسراء والمعراج ثم فتح المسلمين لها، ثم عادت القدس لتقع في أيدي الصليبين مرة أخرى، الذين هزمهم صلاح الدين الأيوبي وحرر القدس من أيديهم في ملحمة حطين، ولكنها عادت لتسقط مرة أخرى بأيدي الصليبين وبقيت 11 عامًا قبل أن يحررها الملك الصالح نجم الدين أيوب.
غزا القدس المغول، ولكن المماليك بقيادة قطز والظاهر بيبرس هزموهم في معركة عين جالوت وعادت القدس لحمى الإسلام، وخضعت بعدها لحكم الدولة العثمانية حتى سقوطها بيد المستعمر البريطاني عام 1917، واحتلال الصهاينة جزءًا منها عام 1948 ثم إكمال احتلالها عام 1967.
نشرت صحيفة هآرتس تقريرًا عن نتائج بحث أجراه المعهد الجيولوجي الإسرائيلي على السلاسل السندية المنتشرة على جبال القدس تحت عنوان: "آباؤهم وليس آباءنا"، وتناول البحث قضية السلاسل الحجرية التي تظهر على جبال القدس تحت الغطاء النباتي الحرجي الكثيف، الذي زرعه المستوطن الذي يحاول إخفاء هذه السلاسل الحجرية.
خلص البحث إلى نتيجة مفادها أن هذه السلاسل هي إسلامية بحتة بشكل لا يشوبه أي شك، وغالبيتها تعود للحقبة العثمانية، وبعضها يرجع لحقب إسلامية أخرى متعاقبة كالحقبة المملوكية، وبعضها يعود لحقب متأخرة كالعباسية والأموية.
وقد كانت الجمعيات الدينية الصهيونية تروج زورًا وبهتانًا أن تلك السلاسل جزء أصيل من منظر توراتي مشهود محفوظ من آلاف السنين، وبذلك هو "حق ديني وتاريخي يهودي في أرض الميعاد"!
يحاول الصهاينة تشويه السنوات الطويلة التي عشق فيها الفلسطيني أرضه، فجاد عليها بأغلى ما يملك، استصلحها للزراعة وبنى على سفوح جبالها سلاسل حجرية ليزرعها ويرويها فتنمو وتثمر.