في ثاني تحرك أمريكي خلال أقل من شهر يستهدف إنعاش السلطة الفلسطينية سياسياً واقتصادياً، زار مدير جهاز المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إي) ويليام بيرنز رام الله والتقى برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، بحضور رئيس جهاز مخابراتها العامة ماجد فرج، رغم أن هذا الملف لم يكن من أولويات الإدارة الأمريكية الحالية التي تركز على إستراتيجية مواجهة الصين ومن ثم روسيا وإيران، وهي التي دعتها إلى سحب قواتها من مناطق الصراع في المنطقة مثل أفغانستان والعراق رغم ما يتضمنه ذلك من أضرار محتملة على النفوذ الأمريكي في المنطقة.
وناقش بيرنز مع عباس وفرج الوضع الاقتصادي للسلطة والأزمة المالية التي تمرّ بها، وكيفية دعمها حتى تقدر على البقاء، بالإضافة إلى ترتيبات السلطة الفلسطينية في أثناء حكم عباس وبعده، لمنع حركة حماس من السيطرة على الوضع الفلسطيني، بما في ذلك دعم الأجهزة الأمنية ورفع مستوى التنسيق معها وتأهيلها لتكون قادرة على منع انتفاضة جديدة.
محاولات إنعاش اقتصادية
وقبل نحو أسبوعين من ذلك، كان لافتاً تصريح نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الفلسطينية والإسرائيلية هادي عمرو، بعد اجتماعه مع مساعدي عباس في رام الله، ومع مسؤولين إسرائيليين، وصفه السلطة الفلسطينية بـ"غابة جافة في انتظار الاشتعال"، وإبلاغه (تل أبيب) قلقة الشديد من ذلك داعياً إياها لمساعدتها في تبني إجراءات لدعم ميزانية السلطة الفلسطينية، موكلاً بذلك مهمة إنقاذ السلطة الفلسطينية لحكومة الاحتلال في مؤشر على أولوية الملف أمريكياً رغم اهتماماتها الدولية.
وكانت الإدارة الأمريكية قد أعلنت عن عودة المساعدات للسلطة، إلا أن ذلك لم ينعكس على الوضع الاقتصادي في ظل استمرار الاحتلال في استقطاع 190 مليون دولار من المقاصة بحجة أن السلطة تحوّلها إلى عائلات الشهداء والأسرى، فضلاً عن استشراء الفساد.
وفي هذا السياق، بلغ دين السلطة للبنوك نحو 2.3 مليار دولار، وهو مبلغ هائل بالنسبة لميزانيتها، بما يهدد بتأخر أو تعطل رواتب الموظفين وأعضاء الأجهزة الأمنية الذين يمثلون عصب السلطة.
وجاء التحرك الإسرائيلي لنجدة السلطة بزيادة عدد العمال الفلسطينيين المسموح لهم بالدخول إلى الأراضي المحتلة عام 1948، وإصدار تصاريح لـ 15 ألف عامل، والموافقة على زيادة حصة العمال الفلسطينيين في مجال الفندقة في الكيان بـ 1000 عامل إضافي.
والملفت للانتباه هو التركيز على الوضع الاقتصادي دون الالتفات إلى الوضع السياسي الذي هو الأساس في فشل السلطة، بعد تعطل المفاوضات منذ 2014، وفشل مشروع أوسلو في تحصيل الحقوق الفلسطينية، واستمرار الاحتلال في فرض الأمر الواقع في الضفة والقدس.
فشل سياسي واقتصادي للسلطة
ولا يبدو أن إدارة بايدن في وارد تحريك العملية السياسية ولا الضغط على الاحتلال لوقف أو تجميد الاستيطان المعطل الأساسي لأي تسوية سياسية، بل إنها بتحركها تكرس السلام الاقتصادي الذي نصت عليه صفقة القرن في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب!
كما تجاهلت الإدارة الأمريكية تماماً الضغط على السلطة لتحسين أوضاع حقوق الإنسان ووضع حد لتغولها على الحريات الأساسية للإنسان الفلسطيني.
فأزمة السلطة الفلسطينية التي شاع فسادها بصفقة اللقاحات الفاسدة مع الاحتلال، هي أبعد من أن تكون اقتصادية فقط، حيث انكشفت تقصيرها في أثناء المواجهات في القدس والضفة، وبعد أن ارتفعت هتافات الفلسطينيين ضد الرئيس الفلسطيني وسلطته في القدس، مقرونة بهتافات مؤيدة لحماس وقادتها مثل محمد الضيف والاستنجاد به للتصدي للانتهاكات الإسرائيلية، في تعبيرات واضحة عن تراجع مكانة السلطة، بل والرغبة في التخلص منها أيضاً.
كما تزايدت المطالبات برحيل عباس بعد أزمة نزار بنات حتى في مدينة رام الله التي تشكل معقل السلطة الفلسطينية رغم أن المغدور نزار بنات قتل في الخليل.
والدلالة الأكثر خطورة كانت في الوثيقة التي وقعها أكثر من ثلاثة آلاف مثقف وأكاديمي فلسطيني بارز وطالبت بإقالته الفورية من مناصبه القيادية كلها، بسبب مواقفه السياسية وفشل مشروع أوسلو.
وفي دلالة أخرى على تآكل دور السلطة وقيادتها، قال 84% من الفلسطينيين وفق استطلاع أجراه المركز الفلسطيني للمسح وبحوث السياسات إن الفساد منتشر في مؤسسات السلطة! فيما قال 56% منهم إن حماس تستحق تمثيل وقيادة الشعب الفلسطيني، مقابل 14% قالوا ذلك عن حركة فتح! الأمر الذي يشكل تحولاً مهماً في توجهات الشعب الفلسطيني بعد معركة سيف القدس.
ولا يبدو أن محاولات الإنعاش المحدودة هذه ستتمكن من إخراج السلطة الفلسطينية من أزمتها المالية طالما استمر الاحتلال في تنفيذ مقاصته على الأموال الفلسطينية وفرض الضرائب عليهم.
أما مبادرات استيعاب العمال الفلسطينيين في اقتصاد الاحتلال فلن تعود بأي فائدة على الاقتصاد الفلسطيني بل ستكرس تبعيته للاحتلال.
وفوق هذا، فإن أي تسهيلات إسرائيلية لن تكون بدون ثمن سياسي يخفض سقف السلطة ويجعلها مرتهنة أكثر للاحتلال.
السلطة الفلسطينية.. إلى أين؟
وحتى إن أعطى الدعم الأمريكي والإسرائيلي دفعةً جديدةً للسلطة فإن مشروعية بقائها باتت موضع تساؤل، ليس فقط بسبب ضعفها الذاتي، بل بسبب ظهور حماس حركةً مؤهلةً للدفاع عن الشعب الفلسطيني، وأنها الأولى بقيادته، بما يهز مكانة السلطة العاجزة، ويشجع التحركات الفلسطينية لإنهاء دورها والتوجه بمهماتها لمنظمة التحرير، بعد إعادة تشكيلها لتشمل حماس والجهاد.
ولكن على أرض الواقع تحاول السلطة التي تسيطر عليها فتح الاحتفاظ بتماسكها عبر أجهزة أمنية نافذة تتلقى المساعدة من (إسرائيل) وأمريكا، طالما كان بديلها حركة ترفض عملية التسوية وتحارب الكيان بما أوتيت من قوة.
صحيح أن فتح السلطة ستتعرض للهزيمة في أي انتخابات تشارك فيها حماس، ولكنها لم ولن تسمح بأي عملية ديمقراطية أن تزيحها عن الحكم.
ولا يبدو أن السلطة الفلسطينية على شفا الانهيار، إلا أن تطورات معينة قد تؤدي لتضعضع جديد في مكانتها، مثل أن تتطور أي جولة جديدة للقتال بدافع من اعتداءات إسرائيلية، أو أن تقع عمليات مقاومة في الضفة الغربية يسقط فيها قتلى وجرحى إسرائيليون.
وهذا قد يؤدي لاشتباكات عنيفة في القدس قد تنتقل للضفة الغربية وتؤدي لاندلاع انتفاضة ثالثة تنهي دور السلطة، وتعزز مكانة حماس والمقاومة، وتؤسس لمعادلة فلسطينية جديدة تفرز توافقاً فلسطينياً جديداً يتجاوز اتفاق أوسلو، خصوصاً إذا أدى ذلك لاجتياح إسرائيلي للأراضي الفلسطينية كما جرى في عملية السور الواقي عام 2002.
أما الحديث عن احتمال اندلاع "ربيع فلسطيني" بعد نزار بنات، فلا يبدو أنه احتمال واقعي في ظل إحجام القوى السياسية عن المساهمة فيه.
وبصرف النظر عن تطور وضع السلطة الفلسطينية، فإن كل المؤشرات تؤكد أنها تتراجع بثبات على الرغم من محاولات إنعاشها، ذلك أن برنامجها السياسي إلى تراجع، خصوصاً مع توجه أحزاب الكيان الصهيوني نحو التشدد والتطرف أكثر وأكثر، مقابل توجه الشارع الفلسطيني للمقاومة ورفض الخضوع للاحتلال أو لكل من يرتبط به.