لم تعبر انتخابات الكنيست الإسرائيلي الـ 25 عن اتجاهات مفاجئة أو بعيدة عن الواقع الذي يعيشه الكيان في السنوات الأخيرة، وإن كانت سترجح ولأول مرة في تاريخه تشكيل ائتلاف حكومي يميني ديني متطرف، سيتمكن على الأغلب من الصمود طوال ولاية الحكومة القادمة، على عكس الحكومات التي لم تصمد خلال السنوات الأربع الماضية، وجرى فيها 5 جولات انتخاب للكنيست.
ربما تشكل هذه الانتخابات الانقلاب اليميني الأكبر بعد انتخابات 1977 التي تمكن فيها الليكود بزعامة مناحيم بيغن من الهيمنة على الحكومة الإسرائيلية منهيا بذلك فترات سيادة حزب العمل منذ قيام الكيان الغاصب عام 1948، وازداد هذا اليمين قوة وتجذرا بعد اتفاق أوسلو عام 1993 واغتيال مهندسه وعرابه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين عام 1995. ومنذ ذلك التاريخ تكرست هيمنة الليكود واليمين على الحياة السياسية في الكيان متأثرة باندلاع الانتفاضة الثانية من 2000 إلى 2005، مما أدى إلى جمود عملية التسوية السياسية وانتهائها.
غير أن الفرق بين التحالف الصهيوني الجديد وما سبقه، هو أنه يمثل تحالفا قويا ومتماسكا بين الصهيونية اليمينية والصهيونية الدينية. فقد حصل الليكود على 32 مقعدا، وهو عدد متساو مع ما حصلت عليه الأحزاب الدينية المتطرفة التي تشمل ائتلافا بين "الصهيونية الدينية" بزعامة بن غفير و"القوة اليهودية" بزعامة سموتريتش (14 مقعدا ارتفاعا من 6)، والأحزاب الحريدية الدينية التي تشمل حركة "شاس" وحزب "يهودت هتوراة" (18 مقعدا ارتفاعا من 14).
هذا يجعل لهذه الأحزاب وزنا قويا يصعب على رئيس الوزراء القادم بنيامين نتنياهو التعامل معها بمنطق الاستيعاب، كما كان يفعل في السابق عندما كانت تشكل أقلية في التحالف الحكومي.
فكيف يكون الأمر إذا عرفنا أن لائحة الليكود الذي يصنف أصلا على أنه يمين وسط باتت تضم في صفوفها أعضاء كنيست من المتدينين الصهيونيين؟
إضافة إلى ذلك، فهناك 18 مقعداً إضافياً على الأقل لدى أحزاب يمينية خارج الائتلاف المرتقب لنتنياهو، وهي 12 مقعداً لتحالف المعسكر الوطني (تحالف الجنرالات) الذي يقوده الجنرال غانتس وساعر والجنرال غادي آيزنكوت، و6 مقاعد لحزب "إسرائيل بيتنا" اليميني القومي المتطرف بزعامة صاحب مشروع الترانسفير أفيغدور ليبرمان.
ويعني هذا تكريس قوة اليمين في الكنيست الإسرائيلي، سواء داخل الحكومة أوفي المعارضة (إن صح تسميتها معارضة) بأكثر من 80 مقعداً (ثلثي الكنيست)، مع حصر قوة يسار الوسط الصهيوني بـ4 مقاعد لحزب العمل، في وقت تلاشى فيه وجود اليسار بعد أن فشل حزب ميريتس في الوصول لنسبة الحسم، وهو الذي كان ممثلاً في الكنيست منذ تأسيس الكيان عام 1948.
وهذا يعني عمليا انتهاء دور اليسار الإسرائيلي، وتأثيره في الخارطة الحزبية. في حين بقي حزب يش عتيد (وسط) الذي حصل على 24 مقعدا في صفوف المعارضة دون أن يتاح لزعيمه يائير لبيد، رئيس الحكومة الإسرائيلية المنتهية ولايتها، أي فرصة لمنافسة نتنياهو في تشكيل الحكومة القادمة.
ويمكن القول إن الكتلة المقابلة لليمين الديني برئاسة نتنياهو تفككت وتلاشت طالما لم يجمعها برنامج سوى معارضة وصول نتنياهو للحكم.
أما بالنسبة للكتلة العربية، فقد تفككت إلى 3 أجزاء، نجح اثنان منها في الحصول على 5 مقاعد لكل منهما، بينما فشل التجمع الوطني الديمقراطي، الحزب العربي ذو الطابع القومي الأكثر وضوحا بين الأحزاب العربية برئاسة سامي أبو شحادة في الحصول على نسبة الحسم التي تؤهله للتمثيل في الكنيست.
تأجيج الدافع القومي
هكذا تمكن نتنياهو الملاحق من القضاء الإسرائيلي بتهم الفساد من العودة وبقوة لقيادة الحكومة المقبلة مدعوما من تيار يميني وديني حريدي، حرص هو على دعمه والتودد إليه وتبني مطالبه أثناء وجوده في المعارضة، وبعد أن نجح في إقصاء عدد من خصومه ودفع بعضهم إلى خارج الحزب.
وقد تقرب زعيم الليكود من تحالف "الصهيونية الدينية" عبر دعم عضو الكنيست بن غفير والتوسط بينه وبين "سموتريتش" لتوحيد الصفوف وخوض الانتخابات ضمن قائمة واحدة بعد أن نشب خلاف بين الجانبين قبل أسابيع.
كما عمل على تأجيج الدافع القومي اليهودي بالتحريض على الناخبين الفلسطينيين العرب، والعمل على منعهم من التأثير على الانتخابات، ملامسا بذلك تخوفات التيارات اليمينية والحريدية على الصعيد الأمني، والتي تعززت بالهبة الفلسطينية إبان معركة سيف القدس العام الماضي.
خلال الحملة الانتخابية رفع الليكود لافتة بعنوان: "خلص، اكتفينا". ويظهر فيها على منصات الإعلانات رئيس الحكومة المنتهية ولايته يائير لبيد وشريكه في الائتلاف منصور عباس في القائمة الموحدة، في إشارة واضحة إلى أن مشاركة الفلسطينيين في الحكم هي خط أحمر يجب منعه بالقوة الممكنة.
قيود التحالف الجديد
غير أن هذا التحالف سيفرض تبعات على رئيس الوزراء الإسرائيلي القادم. فهو مضطر للتعامل مع شريكه الرئيسي، تحالف الصهيونية الدينية وعلى رأسه بن غفير، الذي أعلن بأنه سيطالب بحقيبة وزير الأمن الداخلي ليصبح مسؤولاً عن الشرطة التي تتعامل أمنيا مع الفلسطينيين.
بن غفير هذا يتبنى مبادئ الكهانية المعادية للفلسطينيين، ويدعو صراحة إلى قتلهم، كما تعهد بإقرار قانون إعدام منفذي العمليات وإبعاد عائلاتهم ومصادرة أراضيهم وترحيلهم، ودعا إلى إطلاق يد جيش الاحتلال للقيام بكل ذلك. وكذلك السماح بالصلاة العامة لليهود في الأقصى، والتوسع في السياسات الاستيطانية.
في خطاب النصر الذي ألقاه بعد ظهور نتائج العينات التلفزيونية لنتائج الانتخابات، دعا المتطرف بن غفير إلى إطلاق يد الجيش والمستوطنين، واستيطان كافة ما أسماها أرض إسرائيل، معلنا شعار "عدنا لنكون أصحاب البيت".
سيجد نتنياهو نفسه أمام اختبار تلبية طلب حليفه بن غفير بمنصب وزير الأمن، وبالتعامل مع المطالب المتطرفة له، وهي ما ستثير -إن لبّاها- حفيظة الولايات المتحدة والغرب ضده.
البطش بالفلسطينيين واستباحة الأقصى
بصرف النظر عن قبوله بهذه المطالب بحذافيرها أم لا، فمن المؤكد أن نتنياهو بشخصيته المعروفة بالمكر والدهاء والبراغماتية، سيلجأ للحفاظ على تماسك تحالفه، عبر التشدد والقسوة في مواجهة المقاومة الفلسطينية بخطوات مدروسة وثابتة، ولكنها على الأغلب لن تكون شاملة كما يريد حلفاؤه اليمينيون.
وبالقطع، فإنه لن يقل عن رئيس الحكومة السابقة لبيد في سياسة إرضاء المتطرفين في المسجد الأقصى، من خلال زيادة عدد المقتحمين، والسعي إلى فرض صلاة اليهود الصامتة وغير الصامتة في باحات المسجد، وفرض التقسيم الزماني والمكاني وصولا لبناء الهيكل -لا قدر الله- ولكنه سيفعل ذلك بخطوات متدرجة ومتتالية منعا لاندلاع مواجهات عنيفة، والمزيد من التوتر مع الأردن.
كما أنه سيكون مضطراً لتقديم تنازلات كبيرة في القضايا الداخلية تحديداً، وما يتعلق بـ"حرمة السبت"، والمظاهر اليهودية الدينية لشركائه المتشددين.
في هذا الإطار، سيعمل على استغلال التوافق الحكومي لإحداث تغييرات جوهرية في النظام القضائي الإسرائيلي، من شأنها إنقاذه من دخول السجن بتهمة الفساد، وتعيين قضاة يمينيين بدلًا من اليساريين وخاصة في المحكمة العليا، وهي النقطة التي ستبتعد بالكيان أكثر وأكثر عن الليبرالية، والديمقراطية الداخلية التي لا تشمل الفلسطينيين بالطبع.
لن يقف انعكاس هذه التعديلات على الإسرائيليين فقط، ولكن يراد منها تسهيل عمليات مصادرة الأراضي (تطبيق عملي لمشروع الضم الذي تراجع عنه سابقا بضغوط أميركية) والاستيطان والإبعاد والاغتيال، وإزالة العوائق القانونية من أمامها. وربما يكون لهذه الخطوة انعكاسات سلبية على علاقة الاحتلال والغرب التي يزعم أنها قائمة على قيم الديمقراطية والليبرالية. ومن دون شك فإنها قيم زائفة لأنها قيم انتقائية سواء لدى الكيان أو لدى الغرب.
شرعنة الاستيطان وتكريس الضم
في القضايا السياسية، تقف قضية الاستيطان على رأسها، حيث سيحاول نتنياهو شرعنة البؤر الاستيطانية الصغيرة في الضفة وتحويلها إلى مستوطنات، وهو البرنامج الذي طرحه الليكود سابقا.
وحتى يتجنب ردود الفعل السلبية من الولايات المتحدة والغرب، فإنه سيتدرج بهذه الخطوة، ويحاول تمريرها بالأمر الواقع مستغلا انشغال الولايات المتحدة وأوروبا بحرب أوكرانيا.
والحقيقة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي كان عازما في السابق على هذه الخطوة، ولكنه أجلها بسبب التعقيدات على الساحة الدولية، وربما يجد هذه المرة الفرصة سانحة لتنفيذها بخطوات متدرجة.
سيستمر نتنياهو في تأكيد مواقفه السياسية من الاستيطان والرفض المطلق لحل الدولتين، والعمل على ضم الأغوار الفلسطينية للكيان (30% من مساحة الضفة) والتشدد مع السلطة الفلسطينية.
وسيمتد التشدد الصهيوني إلى المواقف الخارجية مثل محاولة تعديل اتفاق الغاز مع لبنان، والتعامل معه كما جرى التعامل مع اتفاق أوسلو بإفراغه من الكثير من مضامينه، وذلك بالادعاء أنه اتفاق سيئ.
كما سيكون الموقف الإسرائيلي أكثر تشددا تجاه الاتفاق النووي مع إيران، مع الاستمرار في سياسة ضرب مواقع أو شخصيات إيرانية لها علاقة بالبرنامج النووي، دون الوصول إلى ضرب المنشآت الإيرانية، إلا بغطاء أميركي، لأن ثمن ذلك سيكون عاليا على الكيان، فضلا عن أن الطرفين لا يرغبان بالوصول لهذه النقطة.
تطرف لا يكسر إلا بالقوة
ختاما، لا بد هنا من الإشارة إلى أن هذه المواقف السياسية تجاه الفلسطينيين باتت محل إجماع بين القوى الصهيونية الفاعلة، فمع اختفاء وانتهاء اليسار عمليا من الساحة السياسية، فإنك لا تكاد تميز بين حزب وآخر يمينيا كان أو دينيا أو وسطيا أو غيره، إلا في آليات وطرق تطبيق هذه القضايا، وحجم مراعاة الضغوط الغربية بشأنها. بل إن هذه الحكومات أصبحت تتسابق لإرضاء تشكيلاتها المختلفة وجمهورها، بالبطش بالشعب الفلسطيني والعدوان على أراضيه ومقدساته، ورفض حقوقه والقفز على ثوابته.
وليس أمام الشعب الفلسطيني إلا أن يستمر بالمقاومة والانتفاضة التي ثبت أنها الطريق الوحيد لاستعادة الحقوق مع فشل كل الحلول السياسية.
أما قواه السياسية فهي مطالبة بالتوحد ضمن برنامج وطني قائم على دعم المقاومة والتمسك بالثوابت.
ومن الجيد أن نشير هنا إلى أن فرصة إنجاز صفقة تبادل أسرى جديدة تعززت مع رئيس حكومة قادر على اتخاذ قرار التبادل، بعد أن فشل الائتلاف الحكومي السابق في الاتفاق على ذلك، فقد سبق لنتنياهو أن اتخذ قرارا مماثلا في 2011. ويتطلب ذلك نضوج الظروف لدى المقاومة لاستعادة زخم هذه القضية.
أما على المستوى العربي، فسيتمكن نتنياهو من الاستمرار في ملف التطبيع، ولكنه لن يكون بالزخم السابق مع انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة، ووجود حكومة بايدن الديمقراطية الأقل حماسا أو حتى قدرة في هذا الملف، لا سيما الضرر الأخير الذي وقع في علاقتها مع السعودية.
ومن المهم التأكيد أن التطرف والتشدد الصهيوني لا يمكن كسره إلا من خلال التصدي له وإيقاع الخسائر به، حتى يصل لقناعة أنه لا يستطيع تحمل الخسائر، أما استمرار تقديم التنازلات والتطبيع معه فلن يزيده إلا تطرفا وتشددا.