تدرك إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أنه لا توجد فرصة في الظروف الحالية لإطلاق عملية التسوية السياسية المتوقفة منذ 2014. ولكنها في نفس الوقت تريد إدارة الفراغ الحاصل في هذه العملية عبر تحركات تحاول إشاعة نوع من الاستقرار والهدوء، وتمنع تدهور حالة السلطة الفلسطينية، من خلال محاولة فرملة التوجهات العدوانية للاحتلال، وإدماجه في خطة اقتصادية تهدف إلى إنعاش السلطة المتهالكة اقتصادياً.
وشهدت المنطقة خلال الأيام القليلة الماضية تحركات عدة أدارها بايدن بدا ظاهرها سياسياً ولكن مضمونها كان اقتصادياً، في محاولة لشراء الوقت وتأمين هدوء في المنطقة يهيئ للإدارة الأمريكية التفرغ للملفات الأكثر أهمية وأولوية لها متمثلة في مواجهة الصين وروسيا وإيجاد صيغة لتحييد التهديد النووي الإيراني.
اللعب في الوقت الضائع
وفي هذا السياق انعقدت القمة الثلاثية بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والملك الأردني عبد الله بن الحسين ورئيس سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية محمود عباس.
ووفق ما جرى الإعلان عنه في نهايتها فإن القمة هدفت إلى التمهيد لاستئناف المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، في محاولة لإحياء ما يسمى عملية السلام، وتأكيد هدف الدولة الفلسطينية، وأنه لا بديل عن حل الدولتين، ولا وجود لاستقرار أو أمن إقليمي أو عالمي من دون إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.
وعلى الرغم من علم الأطراف المجتمعة بطبيعة الوضع الإسرائيلي وتشكيلة الحكومة المتطرفة ورفضها حل الدولتين جملةً وتفصيلاً، فإنهم دعوا إلى "بلورة تصوّر لتفعيل الجهود الرامية لاستئناف المفاوضات والعمل مع الأشقاء والشركاء لإحياء عملية السلام وفقاً للمرجعيات المعتمدة".
ويبدو أن هذا ما سيجري بحثه في اللقاء المرتقب بين السيسي ورئيس وزراء الاحتلال نفتالي بينت، من دون وجود أي أفق لتحريك عملية التسوية.
وفي محاولة لتهيئة الأجواء لإطلاق هذه العملية دعم الأردن المسعى المصري لتثبيت هدنة في قطاع غزة تفضي لإطلاق عمليات إعادة الإعمار تترافق مع إحياء جهود المصالحة الفلسطينية، بما في ذلك إمكانية إجراء انتخابات فلسطينية تفضي إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية قادرة على التفاوض باسم الفلسطينيين وبدء تنفيذ مشروعات تنموية في قطاع غزة برعاية القاهرة.
غير أن هذه الخطوات لا تبدو بهذه السلاسة، بل يكاد يكون من المستحيل إعادة إطلاق عملية سياسية من جديد بسبب عدم استعداد هذه الحكومة أو أي حكومة إسرائيلية للقبول بها.
فقد استبق بينت لقاءه الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي جاء قبل القمة الثلاثية العربية، في مقابلة له مع صحيفة "نيويورك تايمز" بالقول إنه "لن يوجد ضم ولا عملية سياسية ولا مفاوضات مع الفلسطينيين"، ملخصاً التوجه الإسرائيلي الرافض لأي تحريك للمفاوضات، مع استمرار سياسة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق المتمسكة بالاستيطان مع تجميد عملية الضم التي سبق الإعلان عنها.
ويبدو أن تركيز اللقاء بين بايدن وبينيت انصب على مواجهة الخطر النووي الإيراني ومحاولة الكيان الصهيوني الحيلولة دون توقيع واشنطن والغرب لاتفاق نووي جديد تروج لأنه سيعطي الفرصة لإيران لامتلاك السلاح النووي.
ووصفت هآرتس في 29/8 ما جرى في اللقاء بأن "بايدن بدا كمن يتبنى الموقف الإسرائيلي الذي يقدس الوضع الحالي ويخلد الاحتلال" فيما هو "لم يتوقف عند خطوات من نوع إعمار غزة وكبح السيطرة على أراضي الفلسطينيين وخلق أفق سياسي والشروع بالمفاوضات".
وكما هو متوقع لم يبادر بايدن إلى خطوة سياسية على الرغم من تأكيده في غير مكان لحل الدولتين، فهو يدرك صعوبة هذا الطرح خصوصاً في هذه المرحلة، بما يدفع إلى الاستغراب من تعويل البيان الختامي للقمة الثلاثية العربية على حل سياسي مع ما سمته "الشريك" الإسرائيلي"!
لا حل سياسي، وأمن الاحتلال أولوية
وقد اكتفى الرئيس الأمريكي بدعوة رئيس وزراء الاحتلال خلال لقائهما في واشنطن للامتناع عن اتخاذ إجراءات يمكن أن تزيد حدّة التوتّرات مع الفلسطينيين، داعياً إياه للمضيّ بخطوات تحسن حياة الفلسطينيين والوضع الاقتصادي في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ويأتي هذا الطرح الأمريكي الخجول أمام رئيس حكومة متطرفة من دون التطرق إلى حل الدولتين، محاولة لإطفاء الحرائق التي يشعلها الاحتلال باستمراره بالاستيطان وتصعيده ورفضه استعادة المفاوضات.
وكرس اللقاء الانحياز الأمريكي إلى الاحتلال بعدم الضغط عليه بما يتضارب مع مواقفه السياسية، ومحاولة تكييف الوضع الفلسطيني بما يخدم المصلحة الأمنية للكيان مصلحةً استراتيجية للولايات المتحدة، ويمنع ما يضر بها. كما يأتي مقرونا بتضعضع وضع السلطة الفلسطينية بسبب فشلها في تحقيق إنجاز سياسي وتغوُّلها على الحريات، مقابل بروز حماس مدافعاً عن الشعب الفلسطيني، الأمر الذي استدعى خطة اقتصادية ترفع من سوية السلطة وتحول دون سقوطها.
وفي هذا السياق قال وزير الأمن في حكومة الاحتلال الجنرال بني غانتس بعد أيام من لقائه عباس وقبل القمة الثلاثية إنه "يدرك أنه لن يكون ممكناً التوصل إلى تسوية سياسية مع الفلسطينيين في الوقت الراهن".
وأوضح غانتس سياسة الاحتلال بمساعدة السلطة الفلسطينية من أجل الأمن الإسرائيلي، قائلاً: "سنعمل بشدة ضد المتطرفين ونقوي قدر الإمكان المعتدلين، ومن يعتقد أن هذه معادلة بسيطة فهو مخطئ، وبينت أيضاً يعتقد بوجوب تقوية أبو مازن"، مؤكداً أن اللقاء كان مهماً وأن "نتائجه الجيدة" ستتضح قريباً.
إنعاش السلطة ومحاربة حماس
وأسفر لقاء عباس-غانتس عن الاتفاق على قرض إسرائيلي مزعوم للسلطة الفلسطينية بقيمة 500 مليون شيكل (نحو 155 مليون دولار)، وهو ما علق عليه القيادي الفتحاوي أحمد غنيم بالقول إن (إسرائيل) تقرضنا من أموالنا المسروقة التي تقتطعها من العائدات الفلسطينية بقيمة (50 مليون شيكل) شهرياً بحجة أنها تدفع لأسر الشهداء والأسرى، حتى صار إجمالي المبلغ المقتطع 900 مليون شيكل (نحو 281 مليون دولار).
كما وافق الاحتلال على منح تصاريح عمل إضافية لـ15 ألف فلسطيني وإصدار تصاريح بناء في المنطقة "ج" التي تُشكل 60% من مساحة الضفة الغربية المحتلة، وتقع تحت مسؤولية الاحتلال الأمنية والمدنية الكاملة.
ويبدو أن الجهود المبذولة تأتي في سياق نتائج معركة سيف القدس التي أضرت بالسلطة الفلسطينية وأضعفت موقفها في ظل أزمة اقتصادية حادة تواجهها، إذ تريد الإدارة الأمريكية إعطاء فرصة لمصر لترتيب تهدئة في قطاع غزة وإيجاد حالة من الاسترخاء الاقتصادي في غزة والضفة، وضمان عدم تحرك الاحتلال أيّ تحرُّك قد يُدخل المنطقة في أزمة جديدة لا تريدها واشنطن حتى تتفرغ لملفاتها الملحة.
ولذلك دعت واشنطن الكيان لعدم ربْط ملفّ الجنود الأسرى والمفقودين في القطاع بالقضايا الإنسانية الأساسية لغزة مثل الكهرباء والوقود وغيرهما، والتوقف عن استهداف الشيخ جراح وهدم البيوت.
ومن اللافت للانتباه أن مساعي إنعاش السلطة ترتبط بمحاولات إضعاف حماس، ونستذكر في هذا السياق زيارة مدير جهاز المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إي) ويليام بيرنز لرام الله لحل الأزمة المالية التي تمرّ بها السلطة ودعم أجهزتها الأمنية ورفع مستوى التنسيق معها وتأهيلها لتكون قادرة على منع انتفاضة جديدة ومنع حماس السيطرة على الضفة.
وجاء ذلك بعد وصف نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الفلسطينية والإسرائيلية هادي عمرو السلطة الفلسطينية بـ"غابة جافة في انتظار الاشتعال"، ودعوته تل أبيب لمساعدتها.
وهكذا فإن الترتيبات الجديدة بما فيها لقاء عباس-غانتس الذي وصفته الفصائل بأنه "طعنة لشعبنا" تريد إنعاش السلطة اقتصادياً لأن دورها الأمني مهم وحساس للاحتلال، ولكنها لن تقدم حلاً سياسياً لشعب يرزح تحت الاحتلال، بما يبقي عناصر الصراع قائمة ومحفزة للفلسطينيين للاستمرار في مقاومتهم على الرغم من المعوقات الداخلية والخارجية.