كان أكثر ما أجمع عليه المعلّقون على المشهد المدهش على حدود غزة أول أمس، حين عاجل شاب فلسطيني القناص الصهيوني برصاصة مسدس؛ الربط بين الحدث والحالة السابقة التي أسست له وأسهمت في إخراجه بهذه الفخامة القتالية، أي معركة سيف القدس، التي ما انفكت بركاتها تظلل عموم الأرض الفلسطينية، لتؤكد أنها قد حفرت في وعي ونفوس الشباب الفلسطينيين أثرًا لا يمحى، ولا يلبث أن يتجلى فعلًا مدهشًا في أماكن عديدة، قوامه المفاجأة والإنجاز وحسّ الإقدام العالي.
ليست فقط حدود غزة، بتظاهراتها ومظاهر إرباكها لعدوّها وصواريخها التجريبية، من تفيأت ظل سيف القدس ووعت معادلته الجديدة، فحالة المقاومة هناك لا تجمد عند حال واحدة، بل تتطور وتتفاعل، غير آبهة بتعقيدات الحسابات السياسية التي نجحت المعركة في وضعها في سياقها المناسب، دون تهويل أو تهوين، وبما لا يجعلها مقيّدة لفعل المقاومة، بِعدّه أولوية ومرجعية ومسارًا تنصهر فيه المجالات الأخرى.
ثمة مساحات أخرى للضياء تتسع تدريجًا، محورها بلدة بيتا، ومخيم جنين، فمقاومة بيتا أصبحت حالة قائمة بذاتها، وإن كانت مؤهلة لذلك بحكم نضالها التاريخي ومثابرتها في التصدي لمخططات الاستيطان، فإن معركة سيف القدس أضافت لها بُعدًا جديدًا، ودفعة معنوية خاصة، أسهمت في تكوين يقينها بضرورة المواصلة والتطور والإبداع، واحتراف الصبر في طريق الإنجاز، واستثمار التضحيات المبذولة لتكون وقودًا يستنهض الهمم، لا عائقًا يغري بالانسحاب.
أما مخيم جنين فهو يعود إلى الواجهة ليشكل فرادته الخاصة، تلك التي بدأت منذ معركة جنين خلال الاجتياح الصهيوني للضفة الغربية في عملية السور الواقي عام 2002، حين ذابت الهويات الفصائلية في حالة نضالية واحدة، وظل هذا النفَس متوارثًا إلى اليوم، مستندًا إلى سياق مشابه، لكنه أقوى، وهو ذاك الذي جسّدته غرفة العمليات المشتركة في معركة سيف القدس، وخطاب المقاومة الموحد، المتفق على الوسائل والأهداف وكل التكتيكات التفصيلية.
رغم ضريبة الدم الغالية في مخيم جنين، إنه يواصل طريقه لاجتراح معادلته الخاصة، وهي ضرورة تصعيب مهمات الاحتلال في الاعتقالات والمداهمات وسائر انتهاكاته، بدل أن تكون كل مهماته سهلة التنفيذ في مناطق الضفة الغربية، وتمرّ دون مقاومة، ولو بأضعف الإيمان.
صحيح أن مواجهة الاقتحامات بالسلاح في جنين لا تنجح في إفشالها أو في إيقاع خسائر مباشرة في صفوف جنود المحتل، لكنها تقول أشياء كثيرة مهمة عن طبيعة العلاقة مع الاحتلال، وكون مواجهته هي النمط الطبيعي للتعاطي مع انتهاكاته وجرائمه، وعن بدهية قابلية الفلسطيني للتوحد على قاعدة المقاومة، حيث تتجلى أهداف النضال بوضوح، ويتحدد وجه العدو بوضوح أيضًا.
ولذلك كله، لم يكن ذلك القلق الصهيوني من التطورات النامية في الضفة الغربية آتيًا من فراغ، بل من فهم لخصوصية هذه الساحة ومدى إمكانات إنجازها المقاوم إن تعافت من جراحها، ولذلك تظهر هذه الدموية الصهيونية في مواجهة أي فعل مقاوم، شعبي أو مسلح، فردي أو منظّم، ولعل هذا الاحتلال يقرأ آثار معركة سيف القدس والعمق الذي وصلت إليه بشكل أفضل من كثير من المنهزمين نفسيًّا من فلسطينيين وعرب، الذين دأبهم التشكيك في كل إنجاز مقاوم، مقابل تعظيم قدرات الاحتلال وتهويل عواقب بطشه وانتقامه.
يمكن لمعركة سيف القدس بظلالها الممتدة وآثارها التعبوية العميقة أن تظل وقودًا دائمًا للعزائم ومحركًا أساسيًّا للطاقات، إن أحسنت فصائل المقاومة وجمهورها استثمار تلك الآثار وسارعت إلى البناء عليها، وقطع الطريق على من اجتهدوا في وأد مشاعر الكرامة التي شكّلتها تفاصيل المعركة، ولعل النظر والعمل في المسار الذي اختطته المعركة خير من المراهنة على مسارات سياسية تعيد إنتاج العبث، ولم يعد هذا وقتها.