قرابة 2 تريليون دولار أنفقتها الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان لدعم الجيش والحكومة الموالية لها، تبددت كلها مع سقوط حكومة الرئيس "أشرف غني" التي راهنت على الحماية الأمريكية. وهو ذات المشهد الذي يتكرر مع كل الأنظمة والحكومات التي لا تربط نفسها بشعبها وتعتمد على حماية الاحتلال. وحيثما كان دعم الاحتلال لنظام ما فلا بد أن يتولد الحكام الفاسدون، الذين سيتركهم جنودهم وأتباعهم في لحظة الحقيقة. وهذا ما حدث في أفغانستان، فالجيش لم يقاتل لأنه يدرك أن القادة فاسدون، وهذا ما ألمح إليه الرئيس الأمريكي "جو بايدن" في خطابه مساء اليوم التالي لسقوط كابل في يد حركة طالبان، بعد انسحاب جيشه من داخل الولايات الأفغانية بشكل دراماتيكي، وصفه البعض بأنه كان انسحابًا متعجلًا وساذجًا.
لم تسقط حكومة أفغانستان المتعاونة مع الاحتلال الأمريكي فقط، ولكن خسرت أمريكا سياسيًّا في مفاوضات الدوحة، وعسكريًا بحصول طالبان على عتاد أمريكي نوعي -استمر جمعه عشرين عامًا- يشمل حوامات عسكرية لم تحلم بها طالبان من قبل.
لقد قدم انتصار طالبان على الاحتلال الأمريكي بعد مقاومته عشرين عامًا؛ درسًا بليغًا وخلاصة قاطعة بأن من يراهن على العدو يخسر ومن يتعلم من أخطائه ينجح وينتصر، ولو بعد حين. فالعدو المحتل لا يقدم الدعم من أجل بناء دولة وحضارة أو تعزيز ديمقراطية، بقدر ما يبني نظامًا يحافظ على مصالحه الأمنية والاقتصادية. وقد أكد بايدن في خطابه بأن "الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن مهمتها في أفغانستان بناء دولة" أو دعم ديمقراطية، بل كان هدفها هو الانتقام من تنظيم القاعدة الذي تتهمه بالمسؤول عن أحداث 11 سبتمبر 2001، ومعاقبة حركة طالبان التي وفرت الحماية والرعاية للتنظيم وزعيمه "أسامة بن لادن" أثناء حكمها لأفغانستان.
عندما يقرر الاحتلال الانسحاب فإنه يتخلى عن خدمه ومواليه، ولا يرى في حماية أتباعه أولوية في مقابل تأمين جنوده ومصالحه. رأينا ذلك في مصير "جيش لحد" في لبنان؛ فبعد 24 عامًا (1976-2000م) من تقديم خدماته الأمنية والعسكرية للاحتلال الإسرائيلي، تركه يواجه مصيره بعد الانسحاب المفاجئ من جنوب لبنان. حتى أن قائد ذلك الجيش العميل "أنطوان لحد" قد قال في مقابلة تلفزيونية بأن "إسرائيل لم تبلغه بموعد الانسحاب! وقد عاش ذليلًا في إسرائيل ثم مات في باريس عام 2015م.
وهو نفس السلوك الذي أدى إلى نفس المصير الأسوأ لعملاء الاحتلال الإسرائيلي في "قرية الدهنية" بعد الاندحار عن قطاع غزة في 12 سبتمبر 2005م، حيث أصبحوا مرة أخرى -بعد أن كانوا في مستوطنة ياميت في سيناء قبل تحريرها- هملًا، يعيشون في مكان بلا اسم أو خدمات، يشكون الفقر والمرض والإهمال، وقد كانوا من قبل خدمًا للاحتلال ومصالحه، ويستأسدون على شعبهم بما منحهم الاحتلال من سلطة ونفوذ.
وبغض النظر عن قدرة الفاسدين الكبار على الهرب سريعًا، وتأمين الطائرات والحوامات التي تقلهم وعائلاتهم إلى أقرب بلد يؤويهم أو نظام يحميهم، فإن غالبية حاشية الطغاة تُترك لمواجهة مصيرها ودفع ثمن الخيانة والتعاون مع الاحتلال. وكم كان لافتًا مشاهد الآلاف من الأفغان الذين تدافعوا في مطار كابل طلبًا للحماية الأمريكية، وقد مات بعضهم بحسب التقارير الصحفية، نتيجة التدافع العنيف للحصول على فرصة للهرب في الطائرات العسكرية الأمريكية، خوفًا من دفع ثمن ارتباطهم بالاحتلال الأمريكي خلال العقدين الأخيرين.
إن الاحتلال الإسرائيلي يدرك أن ما حدث في أفغانستان سيكون له تداعيات سلبية عليه وبالتالي إيجابية لصالح استعادة الثقة بأن مقاومة الاحتلال يمكن أن تنتصر، وأن مشهد كابل يمكن أن يتكرر مرة أخرى بصور أشد مما كان في مشهد اندحاره من جنوب لبنان في مايو 2000 ومن قطاع غزة في سبتمبر 2005م.
إن لحظة الحقيقة لا بد أن تأتي فيتكرر المشهد برحيل الاحتلال وسقوط أعوانه، سواء كان حكومة أو جيشًا أو سلطة أو حتى ميليشيات، فما أشبه اليوم بالبارحة وما أشبه النهايات المتكررة عندما تكون البدايات متشابهة! فأفغانستان التي وصفت بأنها مقبرة الغزاة والامبراطوريات تمنح الفلسطينيين أملًا متجددًا بأن زوال الاحتلال الإسرائيلي هو قرار وطني بالمقاومة، وأن من يوفر الأمن للاحتلال مصيره ليس أقل من جيش لحد أو عملاء الدهنية أو الهاربين في مطار كابل.