منذ تموز (يوليو) 2006 كانت الجبهة الشمالية للعدو الإسرائيلي مستقرة على نحو يفيد أن المقاومة اللبنانية لن تبادر بتصعيد يصل إلى مواجهة عسكرية، مع عدم استبعاد إطلاق عدة صواريخ عشوائية ردًّا على عمل عسكري إسرائيلي يستهدف حزب الله في سوريا، وخلال 15 عامًا تواترت المعلومات الاستخبارية الإسرائيلية على تلك السردية التي كانت صحيحة حتى ظهر الجمعة 6 أغسطس 2021، عندما أطلق حزب الله نحو 20 صاروخًا أتبعها بتبنٍّ واضح عبر بيان رسمي ومقطع فيديو يوثق الراجمة.
وسبق ذلك استهداف ناقلة النفط التي تشغلها شركة مملوكة لرجل أعمال إسرائيلي، يوم الخميس 29 يوليو 2021 قبالة سواحل عُمان، ما أدى إلى مقتل اثنين من طاقمها روماني وبريطاني؛ إذ ترجح المصادر الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية أنها عمل إيراني، وقد تواترت القراءات على أنه يعكس تنامي قوة الاستخبارات الإيرانية وقدرتها على تنفيذ عمليات تكتيكية بطائرات مسيرة على مسافات بعيدة وبدقة عالية، وهو ما ناقشته دوائر الاستخبارات الإسرائيلية وعكسته التحليلات الأمنية والعسكرية.
هذان الحدثان يأتيان بعد خوض المقاومة الفلسطينية معركة سيف القدس (10-21 مايو 2021) التي عكست عجز الاستخبارات الاسرائيلية عن تقدير موقف المقاومة الفلسطينية من الأحداث في حي الشيخ جراح بالقدس والمسجد الأقصى، التي تخللها تهديد مباشر من قائد المقاومة "محمد الضيف" وإنذار صريح بتوقيت دقيق (الساعة 6:00 مساء)، إذ فشلت الاستخبارات الإسرائيلية في تقدير قرار المقاومة بإطلاق صواريخها أول مرة إلى عمق الكيان الصهيوني واستهدافه في مدينة القدس، وفرضها قواعد اشتباك تتجاوز آخر معركة مفتوحة (عام 2014)، فقد أصبح "قرار قصف (تل أبيب) هو أسهل من شربة ماء" كما قال أبو عبيدة الناطق باسم كتائب القسام.
إن العدو الإسرائيلي في أسوأ حالاته، فهو في حالة عدم استقرار سياسي وحكومي غير مسبوقة، إذ إن خروج أي من فسيفساء أحزاب الائتلاف الحاكم يعني سقوط الحكومة التي يرأسها زعيم حزب لا يمتلك سوى 7 مقاعد من أصل 60 مقعدًا للحكومة في الكنيست الذي يضم 120 عضوًا.
وجيش الاحتلال الإسرائيلي يعاني توالي فشل إستراتيجيته العسكرية التي احتوتها خطة "تنوفا"، التي روج لها رئيس هيئة الأركان "أفيف كوخافي" طويلًا منذ توليه منصبه قبل عامين، فأحلام "تنوفا" تبددت إذ إن جيش الاحتلال الإسرائيلي لم يصبح أكثر فتكًا، كما وعد كوخافي، وهذا ما أثبتته معركة سيف القدس والتصعيد الإيراني، وأكده رد حزب الله الأخير.
إن اندلاع معركة متعددة الجبهات كان يمثل للاحتلال الكابوس الأسوأ قبل أغسطس 2021، لكنه اليوم أصبح أحد السيناريوهات الأكثر نقاشًا على المستوى الإستراتيجي، ولعل تحليل مسار الأحداث يؤدي بالضرورة إلى إيجاد حالة ترابط بين عجز (إسرائيل) عن الرد التقليدي على إيران أو حزب الله أو حماس؛ ومبادرة تلك الأطراف الثلاثة على استهدافها المباشر، في وقت كانت تهدد بضربة عسكرية لإيران، وتضع نفسها جزءًا من أجندة النقاش الأمريكية حول اتفاق دول 5+1 والملف النووي الإيراني، لتصل إلى مستوى أن ترسل طائرات F16 وF35 للرد على بالونات من غزة.
صحيح أن معركة واحدة مع العدو لا تكفي لهزيمته، لكن مراكمة القوة قادرة على تبديد قوة الردع لديه، كما أن تعدد جبهات الاستهداف يكشف ضعف قدرته على تحمل المواجهة المتزامنة، ويفضح زيف وعوده لحلفائه بالاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية والرفاهية الاجتماعية.
لم تعد (إسرائيل) دولة قادرة على تسويق نفسها بأنها مصدر استقرار في المنطقة، أو دولة تمتلك زمام المبادرة لأن تحمي حلفاءها عسكريًّا أو أمنيًّا، ولم تعد حفلات التطبيع الصاخبة قادرة على الاستمرار، فالتطبيع ليس قدرًا أو قطارًا لا يمكن إيقافه، و(إسرائيل) ليست قوة لا يمكن هزيمتها.