انطلقت ثورة الياسمين التونسية في 17 ديسمبر عام 2010م على نظام زين العابدين بن علي، ذاك النظام الذي حول تونس إلى دولة بوليسية، لا وجود فيها لحرية رأي أو تعبير أو صحافة حرة، ولا وجود لأي شكل من أشكال العمل الحزبي أو النقابي الحر، شأنه في ذلك شأن أي نظام شمولي قمعي دكتاتوري.
انطلقت ثورة الياسمين توقًا لكل معاني الحرية والانعتاق من الأغلال التي كبلت حياة التونسيين، وكان التعبير الأصدق لحال التونسيين تلك العبارة التي أطلقها أحد المواطنين التونسيين بعفوية "لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية".
ومن بعد تونس امتدت شعلة الربيع العربي لتشمل مصر وليبيا وسوريا واليمن، وبدت بعض من ملامحها تسري في دول الخليج.
وصف بعض الكتاب الغربيين موجة الربيع العربي بأنها موجة الديمقراطية الثانية التي تحتاج العالم، بعد الموجة الأولى التي شملت دول أوروبا الشرقية والجمهوريات السوفياتية السابقة بعد انفراط عقد الاتحاد السوفيتي في تسعينيات القرن الماضي، وكان يُؤمل أن يرسي الربيع العربي حكمًا ديمقراطيًا في الدول العربية، يعبر عن نبض الشعوب العربية وتطلعاتها وآمالها، تلك التطلعات والآمال التي لم تحظَ بها الشعوب العربية منذ استقلالها مع بدايات القرن المنصرم.
من مفارقات الأحداث أن الدول الغربية نادت بانتشار الديمقراطية وسعت بكل قوة لنجاح الثورات التي اجتاحت دول أوروبا الشرقية، وعملت على استقرار وثبات الحكومات الديمقراطية التي نتجت عن هذه الثورات، ولكن لم يكُن الأمر كذلك مع ثورات الربيع العربي، فلقد عملت الدول الغربية على إفشال الربيع العربي وحولت الثورات العربية إلى محارق للشعوب والدول شاهدنا جميعًا مآسيها عبر شاشات الفضائيات، بعد أن تركت لوكلائها في المنطقة "الذين نجوا من لهيب ثورات الربيع العربي" نهش تلك الثورات بكل وحشية، فكان ما كان في كل الدول التي مر بها الربيع العربي، ولم ينجُ من هذه الحالة إلا تونس مبعث الثورة وملهم الشعوب العربية، رغم المحاولات المستميتة من أعداء الربيع العربي لإسقاطها كما أسقطوا غيرها، ولكن تونس ثبتت وتجاوزت منعطفات خطرة كادت أو تودي بها، إلى أن أعلن الرئيس قيس اسعيد "المنتخب ديمقراطيًّا" وأستاذ القانون الدستوري عن قراراته التي ألغى بموجبها الحياة الديمقراطية في تونس وعاد بها إلى ما قبل 17 ديسمبر 2010م، لتعود مقولة المواطن التونسي "هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية" لتدق أسماعنا بقوة، فهل مرت تلك اللحظة التاريخية وطواها الزمن ليعود الشعب التونسي يتجرع مرارة القهر والكبت وتكميم الأفواه؟ ربما يكون الرئيس سعيد قد اقتنص لحظة تاريخية "أخرى" وفقًا للمثل الذي يقول "إذا هبت رياحك فاغتنمها".
إذ استغل الرجل حالة التردي الاقتصادي وسوء الأداء البرلماني والترهل الحكومي، ليركب موجة "الانتصار للمواطن التونسي وحماية الوطن" من الخطر الداهم والخوف على مستقبل تونس، ليجمع السلطات بين يديه ويلغي دور البرلمان وما نتج عنه من حكومة توافقية، مبررًا ذلك كله بأنه يطبق البند 80 من الدستور، وهو يعلم علم اليقين أنه يخرج خروجًا سافرًا على الدستور وهو أستاذ في القانون الدستوري، وكأن حال الرجل يقول: "تلك لعبتي ألعب بها كيفما أشاء،" وتناسى أنه عطل بإصرار وعناد تشكيل المحكمة الدستورية التي لها صلاحية تفسير نصوص الدستور دون غيرها، والسبب هنا أصبح واضحًا وجليًا لكل ذي لب أو حتى نصف لب بعد أن أصدر سعيد قراراته الأخيرة.
ما يدمي قلب كل مواطن عربي أن يشاهد أيقونة الثورات العربية تونس "ثورة الياسمين" تذبل أمام ناظريه، في حين يرى على جوانب وزوايا متعددة من هذا العالم الفسيح ديمقراطيات ليست عربية تنمو وتزدهر وينعم بها كل بني البشر من غير العرب، وكأنها حُرِّمت على العرب وأُحِلَّت لغيرهم.
ولذلك يتساءل المرء أهو داء في جنيات العرب ممن يتولون الزعامة يدفعهم للاستحواذ على كل السلطات والحكم المطلق؟ لماذا لم نرَ مثل ما حدث في تونس في الكيان الصهيوني مثلًا؟ رغم الخلاف الشديد بين الأحزاب الصهيونية واتهام رئيس وزراء الاحتلال بالفساد والبدء في محاكمته والتظاهر أمام منزله لأسابيع من قبل مواطنيه والاستقطاب الحاد بين مختلف مكونات العمل السياسي لديهم، الأمر الذي أدى إلى حدوث أربع عمليات انتخاب خلال عام واحد دون المقدرة على تشكيل حكومة، ولكن رغم ذلك لم نرَ الجيش الصهيوني يتدخل "ليوقف هذا العبث" ولم نسمع أن رئيس "دولتهم" أصدر فرمانات بحل الأحزاب وتجميع السلطات بين يديه!
ليعود المرء ليدرك أن ما يحدث في بلاد العرب ما هو إلَّا مخطط مستخلصه أن يرسخ في أذهان المواطنين العرب فكرة واحدة فقط، وهي إما أن تقبلوا بالحكم الدكتاتوري التابع للغرب رقم فساده فتحظوا بالاستقرار والأمن، وإما أن تطالبوا بالحرية فتتحول بلادكم إلى محرقة كبرى تحرق الأخضر واليابس.
فهل يتوب العرب عن الحرية؟